التوتر الفرنسي- الإيطالي على خلفية معضلة الهجرةhttps://www.majalla.com/node/291541/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AA%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AE%D9%84%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B9%D8%B6%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9
لباريس وروما تاريخ مشترك وهما من العواصم المؤسسة للاتحاد الأوروبي
Getty Images
رئيسة الوزراء الإيطالي جيورجيا ميلوني ورئيس البرلمان الأوروبي روبرتا ميتسولا والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حديث جانبي قبل قمة قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، في 9 فبراير 2023
تتكرر في السنوات الاخيرة المناوشات الكلامية بين المسؤولين الإيطاليين والفرنسيين. وتتركز على معالجات مشكلة الهجرة ومقاربتها من قبل الجانبين. لكن هذا السجال فوق جبال الألب ليس إلا "الجزء الظاهر من الجبل الجليدي"؛ إذ إن التصدع بين هذين البلدين اللاتينيين له عمقه التاريخي وأسبابه في المرحلة المعاصرة.
لكن ذلك لا يعطل الود بين دولتين جارتين وصديقتين، وتأتي الواقعية السياسية للدفع نحو التعاون الثنائي وفي الإطار الأوروبي أو حول البحر الأبيض المتوسط. وعلى الأرجح لن تكون الأزمة الحديثة بعد تصريحات فرنسية وغضب إيطالي الأزمة الأخيرة في مسلسل طويل من مناكفات لن تصل حد القطيعة.
وفي نهاية المطاف تطغى دوماً المصالح المشتركة الكبرى على ما عداها، لأن باريس وروما لهما تاريخ مشترك غني ثقافيا وإنسانيا، وهما من العواصم المؤسسة للمغامرة الأوروبية التي توجها الاتحاد الأوروبي.
تأتي الواقعية السياسية للدفع نحو التعاون الثنائي وفي الإطار الأوروبي أو حول البحر الأبيض المتوسط. وعلى الأرجح لن تكون الأزمة الحديثة بعد تصريحات فرنسية وغضب إيطالي الأزمة الأخيرة في مسلسل طويل من مناكفات لن تصل حد القطيعة
معطيات الأزمة الحالية
اصطدمت الحكومات الفرنسية خلال ولايتي الرئيس إيمانويل ماكرون مراراً بالحكومات الإيطالية المتعاقبة في شأن قضية الهجرة، وخاصة حول طريقة إدارة حدودهما البرية المشتركة واستقبال المهاجرين الذين يتم إنقاذهم في البحر الأبيض المتوسط.
اندلعت الأزمة الحالية عندما اعتبر وزير الداخلية الفرنسي غيرالد دارمانان في الرابع من مايو/أيار الجاري أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني "عاجزة عن حل مشاكل الهجرة التي تم انتخابها على أساسها". وسرعان ما ألغى رئيس الدبلوماسية الإيطالية أنطونيو تاغاني على الفور زيارته المقررة لباريس، مطالباً باعتذار من وزير الداخلية الفرنسي في اليوم التالي، أما السيدة ميلوني فقد نصحت باريس "بتوخي الحذر بشأن استخدام الحكومات الأخرى لتسوية حسابات سياسية داخلية".
إزاء الغضب الإيطالي، سعت الحكومة الفرنسية إلى التقليل من حدة التوتر المستجد. وقالت رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن إن روما "شريك أساسي"، وإنها تريد العمل مع إيطاليا في مواجهة "تحد مشترك" هو الهجرة.
قبل هذه الأزمة وبعدها، أدانت روما ما اعتبرته مزايدات من باريس بخصوص عدم استقبال المهاجرين غير الشرعيين الذين يتدفقون عبر المتوسط، خاصة أن فرنسا تتشدد في إغلاق حدودها البرية لمنع عبور هؤلاء عبر أعالي جنوب البلاد.
تذكرنا أزمة 2023 بأزمة مماثلة عام 2019 وحينها وصل التوتر ذروته، بعد أن قررت باريس سحب سفيرها في روما، احتجاجا على تصريحات مسؤولين إيطاليين اعتبرتها "متجاوزة لكل الحدود". وانتقدت هذه التصريحات السياسة الفرنسية في أفريقيا وليبيا، ومواقف باريس من قضية اللاجئين، ومن حراك "السترات الصفراء" الاحتجاجي (2017-2019) ومن الرئيس الفرنسي ماكرون بالذات. وهكذا ثمة تشابه بين تصريحات الوزير الفرنسي دارمانان (من الفريق اليميني في محيط ماكرون وأحد الطامحين لخلافته) في 2023، وتصريحات مماثلة مثيرة للجدل أطلقها في 2019، نائب رئيس الوزراء الإيطالي لويجي دي مايو، ووزير الداخلية ماتيو سالفيني.
واذا كان انتماء اليمين المتطرف القومي هو السمة المشتركة عند المسؤولين الإيطاليين المعنيين، فحاليا يُعتبر اليمين المتطرف واليسار الراديكالي المتشدد من الأقطاب الأساسيين في فرنسا. لذلك ستكون الاعتبارات الداخلية هي المقياس في تطور سلبي أو إيجابي لعلاقات متشابكة، خاصة أن إيطاليا معروفة بمشهدها السياسي غير المستقر، بينما تعاني فرنسا حاليا من مشهد سياسي مشتت.
اندلعت الأزمة الحالية عندما اعتبر وزير الداخلية الفرنسي غيرالد دارمانان في الرابع من مايو/أيار الجاري أن رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني "عاجزة عن حل مشاكل الهجرة التي تم انتخابها على أساسها"
البعد التاريخي
رغم عوامل القربى والجوار والتاريخ المشترك، ساد التوتر خلال الحقبة الممتدة بين نشأة مملكة إيطاليا (1861) والحرب العالمية الثانية (1939)، وتركّز من خلال التنافس الاستعماري، وتعقدت الأمور إبان حكم موسوليني. وتم تجاوز التعقيدات منذ خمسينات القرن الماضي وحاول البلدان إعادة بناء العلاقات الودية في إطار المجموعة الأوروبية. لكن ذلك لم يحل دون التوترات العرضية (الجزائر، تونس، ليبيا، أفريقيا، الحروب التجارية).
وما يسري على المرحلة المعاصرة يجعلنا نتذكر أن تاريخ هذه الأنحاء من "القارة القديمة" لم يمر دون حروب ومبارزات ومناكفات منذ أيام القياصرة الرومان والإمبراطور نابليون وصولا إلى موسوليني وديغول. وغالباً ما احتدم الجدل بين البلدين حتى عند الالتقاء حول شخصية مثل المبدع ليوناردو دافينشي الذي ولد في إيطاليا وتوفي في فرنسا، علما أن لوحته الشهيرة "الجوكندا" أو "الموناليزا" جوهرة متحف اللوفر كأنها تغمز من قناة البلدين لعدم نسيان عصر النهضة والعودة بأوروبا إلى الوراء.
ما يسري على المرحلة المعاصرة يجعلنا نتذكر أن تاريخ هذه الأنحاء من "القارة القديمة" لم يمر دون حروب ومبارزات ومناكفات منذ أيام القياصرة الرومان والإمبراطور نابليون وصولا إلى موسوليني وديغول
آفاق تطور الصلات الفرنسية- الإيطالية
تندرج الحلقة الجديدة من التوتر الفرنسي- الإيطالي في سياق الاضطراب والتراجع الأوروبي مع المتاعب الاقتصادية والصعود الشعبوي والانكشاف الاستراتيجي الذي تعمق مع حرب أوكرانيا وعدم وجود قطب أوروبي فاعل في دومينو عالمي جديد قيد التشكل.
بالنسبة لصاعق مفجر الأزمات الأخيرة، أي الهجرة غير الشرعية، خاصة لناحية العبء الذي تتكبده إيطاليا بسبب موقعها الجغرافي، فقد شكلت هذه المعضلة الرافعة التي أوصلت الأكثريات الإيطالية الحاكمة المشككة في أوروبا والمتشددة قوميا. وهذا الخلل ليس ثنائيا فحسب، بل يتفاقم بسبب العجز الأوروبي عن بلورة استراتيجية مشتركة حيال الهجرة واللجوء.
وأخيرا ارتفعت أصوات في إيطاليا تحذر من "الاستبدال الإثني"، في إشارة إلى المهاجرين من غير الأوروبيين، وفي ذلك محاكاة لنظرية المرشح الرئاسي الفرنسي اليميني المتشدد إريك زيمور عن "الاستبدال الكبير".
لكن الحقيقة غير ذلك، كما يشير تقرير للبنك الدولي نشر في أبريل/نيسان الماضي: "في الواقع، تستضيف أغنى الدول الأوروبية نحو 43 مليون مهاجر، بما في ذلك 8 ملايين لاجئ، وخاصة الأوكرانيين. يأتي الباقون بشكل رئيسي من دول أوروبية أخرى (56 في المائة)، وبدرجة أقل من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (13 في المائة) وتمثل منطقة أفريقيا جنوب الصحراء 8 في المائة فقط من الإجمالي. ووفقًا للبنك الدولي، "ذهب ثلث الهجرة من جنوب الصحراء فقط (10.3 مليون شخص) إلى دول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة". وهذا يدحض خطر "الاستبدال العرقي".
ومن الملفات الأخرى المسممة للعلاقات الثنائية مطالبة الحكومة الإيطالية، لباريس بتسليم 14 إيطالياً مطلوباً بتهمة الإرهاب منذ حقبة اليسار الثوري العنيف في ثمانينات القرن الماضي من الذين لجأوا إلى فرنسا. لكن رغم تساهل ماكرون على عكس أسلافه حيال هذا الملف، يرفض القضاء الفرنسي تسهيل أعمال التسليم.
ارتفعت أصوات في إيطاليا تحذر من "الاستبدال الإثني"، في إشارة إلى المهاجرين من غير الأوروبيين، وفي ذلك محاكاة لنظرية المرشح الرئاسي الفرنسي اليميني المتشدد إريك زيمور عن "الاستبدال الكبير"
بيد أن ما لا يقال غالبا هو تعارض المصالح "النفطية" و"التجارية" من ليبيا إلى الجزائر وغيرها من المناطق.
وفي الحقبة الأخيرة، تحسنت علاقات باريس وروما داخل الاتحاد الأوروبي بعد الخلاف الذي ساد علاقة المحرك التاريخي الفرنسي- الألماني لأوروبا. ولم تمنع نزعة روما الأطلسية الجذرية من تعزيز تعاونها العسكري والصناعي مع باريس. ولهذا ربما تشعر باريس بأهمية تحسن العلاقات بين البلدين. وحسب مصادر مطلعة يتجه الرئيس إيمانويل ماكرون إلى تسمية دبلوماسي من الوزن الثقيل سفيراً جديدا في روما "المدينة الأبدية". والمرشح للمنصب هو مارتان بريانس الذي كان مديرا سابقا لمكتب وزيرة الدفاع وأحد مسؤولي إدارة المخابرات الخارجية سابقاً، وستكون مهمته تطويق الأزمة المفتوحة حول مسألة الهجرة.
قبل أكثر من ألفي عام بقليل، تجاوز يوليوس قيصر "نهر روبيكون" (كان جزءا من الحدود بين إيطاليا الرومانية ومقاطعة الغال الجنوبية التي صارت جزءا من فرنسا الحالية) الذي كان يسمى نهر الخوف. اليوم يتجاوز البعض في فرنسا وإيطاليا المحرمات والخطوط الحمراء، لكننا لسنا في عصر القيصر، ولسنا في عصر الإمبراطور على جانبي الألب.