المتنبّي أَم شكسبير؟

المتنبّي أَم شكسبير؟

يحقّ لأيٍّ كان، على مختلف المستويات أن يختار مَنْ يشاء وما يشاء، سواء في التذوّق الفنّي أو الأدبي أو الفكري، فهو حرّ في أن ينحاز إلى هذا الكاتب أو الفيلسوف أو السينمائي أو الموسيقي. وقد عرفنا مثل هذه الانحيازات كثيرا من الأمثلة، ودارت في كلّ الأمكنة والمجالات.

لكن لهذه الاختيارات شروطها وعناصرها، ومواقيتها، ومنها (التي نراها بديهيّة)، أن نتناول "المفاضلة"، أو "المقارنة" بين طرفَين يمارسان الحقل ذاته، أو التخصّص ذاته، من شِعر ومسرح ورواية ورسم وفلسفة. أي تكون المقارنة بين شاعرَين، أو مسرحيَّين، أو فنّانَي، من خلال طرائق كلّ منهم وأسلوبه. أي أنه لا تجوز المفاضلة بين كاتب مسرحي وشاعر غنائي، أو بين ممثّل سينمائي ومخرج تلفزيوني.

ومن المفيد أن ينتمي كلّ منهم إلى زمن واحد، ومرحلة واحدة، فلا يمكن أن تتمّ هذه العمليّات بين شاعر من الجاهليّة وآخر من القرن الحادي والعشرين، ومن غير المفيد المفاضلة مثلا بين المتنبّي أو أبي نوّاس وبين شاكر السيّاب أو خليل حاوي، أو بين بول إلويّار وبوشكين.

وضعنا هذه المقّدمة البسيطة لنناقش تحديدا بعض السجالات التي تستعر أحيانا في فتراتٍ ما، في بعض الصحف والمجلات أو على الشاشات التلفزيونيّة، حول شاعرَين كبيرَين: عربيّ هو المتنبّي والثاني إنكليزي هو شكسبير؛ الأوّل عاش في العصر العبّاسي، والثاني في العصر الإليزابتّي (القرن السادس عشر)؛ وذهبت هذه السجالات إلى اختيار من الأكبر شعريّا؛ وكان أحيانا شكسبير وأخرى المتنبّي.

قد يكون لهذه المناسبات وأصحابها صدقيّة، وكذلك ذرائع أو تبريرات منها: فالمتنبّي هو "شاعر العرب الأكبر"، وهذا يمكن أن يكون مقبولا، لِعَظَمَة قصائد هذا الشاعر الذي مارس الهجاء والمديح والفخر. فلا يمكن أحدا أن يشكّك بشِعريّته الفذّة والعبقريّة، وكذلك باتّساع ثقافته الفلسفيّة (اليونانية والهندية والفارسية والمسيحية والإسلامية...). فمن الطبيعي أن تستحقّ هذه القامة الشامخة أن تكون رمزا شعريّا قوميّا عربيّا، بامتياز.

لكن السؤال المهم: أَتجُوز المقارنة المعياريّة هذه، بينه وبين شكسبير أو حتى غوته، أو دانتي… فالمقارنة عفويّة هنا، لأن شكسبير أيضا يعتبره كثيرون "أكبر شاعر عرفته البشرية": أي المقارنة هنا هي بين قمّتين عالميّتين.

لكن هل تجوز المقارنة بين شاعر يكتب المسرح وأهميّته الشعريّة كامنة في أعماله المسرحيّة وآخر لم يكتب المسرح ولا عرفه. فالإثنان مختلفان في النوعية وأشكال التعبير.

لكن كون المتنبّي شاعرا من شعراء البلاطات العربية آنئذ، وشكسبير تناول في أعماله المسرحية أيضا البلاطات والملوك في عصره وأبعد من عصره، سلبا أو إيجابا مثل "ريتشارد الثاني"، و"هاملت" وماكبث، هذه التوازيات غير كافية لتبرّر المقارنة.

يضاف إلى ذلك انتماء الاثنين إلى زمنَين مختلفَين، ومجتمعَين ومختلفَين، وثقافتَين مختلفتَين، يؤكد عقم كل مقارنة بينهما.

فهل يمكن أن نلجأ إلى طريقة أخرى منهجية، واعتماد الاستقراء المعرفي في تجارب الشعوب والحضارات والفنون، ومنها حاليّا المتنبّي وشكسبير، فلعلّنا نجد ما يمكن إعانتنا على المقارنة بينهما؟ هذا الاستقراء يتمثل بما يسمى "الأدب المقارن"، وهو علم "الانتقال من بلد إلى بلد، من لغة إلى لغة، ومن طريقة تعبير إلى أخرى.

وكما هو معروف فالأدب المقارن يعتمد أساسا منهجيّة واضحة "يبحث عن علاقات التشابه والقرابة والتأثر والتأثير بين الحضارات: أي دورانه خلف حدود بلد معيّن وفهْم العلاقات بين الأدب والشِّعر والموسيقى والفلسفة والعلوم الاجتماعية والأديان. وهذا هو المهم في موضوعنا. ومن شروطه وجود صلات تاريخيّة بين المعطيات المعنية، لاكتشاف وجوه التلاقح (التأثر والتأثير، وما نتج عنها. أي دراسة الجوانب التي تتلاقى عبر الأدب في لغات عدّة لتبيان الصلات التي نشأت بينها بتنوّعاتها ومدلولاتها (والهدف تقريب هذه الشعوب من بعضها).

من هذه التحديدات "المنهجية نستنتج أنّه لا يمكن تبرير أي مقاربة محتملة بين المتنبي وشكسبير، أو بين كل شاعريَن أو أديبَين يتّسمان بظروفهما.

 مثل هذه الانحيازات شاعت منذ زمن بعيد. فالمفاضلات كانت "رائجة" بين من الأكبر بين أرسطو أو أفلاطون، أو بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وأدونيس ومحمد الماغوط، وبريخت وبيسكاتور

 

 

لكن نجد من ناحية أخرى أن مثل هذه السجالات والتقويمات كانت تصحّ ربّما مثلا إذا أقامت مقارنة (تأثر وتأثير) بين الفلسفة الأوروبية والإغريقية والعربية. فالأخيرة كان لها الفضل الأكبر في نشوء الفلسفة الأوروبية في القرون الماضية، لأن الفلاسفة العرب ترجموا إلى لغتهم أعمال كبار الفلاسفة اليونان كسقراط وفيثاغور، وهيراقليطس، وسواهم. ومن ترجمتهم العربية تعرّف الأوروبيون على الفلسفة اليونانية: فهناك مقارنات تؤكد "التأثر والتأثير"، والقربى بين الشعوب.

وهذه الحقيقة لا يمكن إنكارها، وقد اعترف المفكّرون والفلاسفة الأوروبيّون بفضل العرب ما يعني كما يقول "الأدب المقارن" هناك خيوط مشتركة لاعتماد منهجية بنود هذا الأدب.

لكن هل يعني كل ذلك أنه لا يحق لأحد أن يعجب بالمتنبّي ويعتبره أكبر شاعر في العالم، بل وأكبر من شكسبير ودانتي وراسين؛ وموليير؟ طبعا لا! سواء من منحى افتخاريّ قوميّ أو وطني.

لكن في هذه الحال تكون هذه المقاربات والتقويمات في حدودها الذاتية لا النقدية ولا الموضوعية. وضمن هذا الإطار المفتوح يمكن أيّا كان تفضيل إلياس أبو شبكة على الفيلسوف الألماني هايدغر، أو يفضّل محمد عبد الوهاب والأخوين رحباني على موزارت أو بيتهوفن.

إن كاتب هذه السطور يتمنّى أن يكون المتنبّي أكبر شاعر في العالم وأن يكون طرفة من العبد أكبر من ألبير كامو (في عبثيته)، وأبو تمّام أكبر من أنطونان أرطو.. شرط أن تكون المقارنات خاضعة لمنهجيات محددة، وليست مجرّد عواطف قومية أو وطنية.

لكن في المقابل عرفنا أن مثل هذه الانحيازات شاعت منذ زمن بعيد. فالمفاضلات كانت "رائجة" بين من الأكبر بين أرسطو أو أفلاطون، أو بين نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وأدونيس ومحمد الماغوط، وبريخت وبيسكاتور… وبين محبّي أو مفضّلي هؤلاء دارت معارك ضارية، لكنها طبيعية ومشروعة لأنها اندلعت بين أدباء وأدباء، وبين فنّانين وفنّانين، وروائيّين وروائيّين… ينتمون كلّهم إلى بيئة زمنية واحدة.

فهذه الاختلافات في الأذواق دليل على تعدّدية النقد، والتذوّق، لأن الإبداع عموما ليس مطلقا، بل نسبي بين شخص وآخر: مثلا كان يمكن مقارنة المتنبي بالشريف الرضي، وجرير بالأخطل، ولبيد الجاهلي بالنابغة.

ومن ناحية أخرى لا يمنع ذلك دارسي الأدب أن يعمدوا إلى التقاط جوانب التأثير بين هؤلاء وبين مَنْ جاء بعدهم: أي تأثير المتنبّي على سعيد عقل وتأثير بودلير على إلياس أبو شبكة، وتأثير فيكتور هيغو على أحمد شوقي… أو تأثير بريخت على سعدالله ونّوس…

فمثل هذه المقاربات مشروعة، وتعبّر فعلا على انفتاح الشعوب على بعضها، والكتّاب والشعراء والفلاسفة على بعضهم، بأساليبهم وتنوّعاتهم، وهذا يختلف جذريّا في الأدب المقارن.

إنّها اللعبة الأبديّة التي لا تتوقّف، ولا تنكسر…

font change