من "يرث أرض الكلام" على "نتفليكس"؟https://www.majalla.com/node/291511/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D9%86-%D9%8A%D8%B1%D8%AB-%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%86%D8%AA%D9%81%D9%84%D9%8A%D9%83%D8%B3%D8%9F
في إمكان المشاهد العربي- أو أي مشاهد آخر في العالم اليوم - متابعة الفيلم الفلسطيني عبر "نتفليكس"، وذلك بعد سنواتٍ من التحفّظ عن المُنتَج الفلسطيني تحديدا، ومراعاة المُنتَج الإسرائيلي. إلى حد كبير استطاعت السينما الفلسطينية الانسلاخ عن الأيديولوجيا وعن الموقف السياسي المباشر في الكتابة الدرامية، في حين ارتبطت السينما الإسرائيلية بخطاب السلطات الإسرائيلية وسياسات التوسّع والسيطرة التي تنتهجها. إنه صراع على من "يكتب حكايته" و"يرث أرض الكلام، ويكتب حكايته تماما"، كما تقول عبارة الشاعر محمود درويش الشهيرة، وقد انتقل من السينما التقليدية إلى المنصات الرقمية في الألفية الجديدة.
في أكتوبر/تشرين الأول 2021، قرّرت منصّة "نتفليكس" عرض 21 فيلما فلسطينيا، وهذا شكّل انتصارا للسينما الفلسطينية، خاصة الأفلام القديمة نسبيا التي جسدت معيارا جماليا مختلفا ضمن السينما العربية، كما أضيفت أفلام جديدة أنتِجت بعد عام 2010. قبل "نتفليكس" كان الفيلم الفلسطيني قد حقّق حضوره السينمائي عربيا وعالميا، لكن الظهور عبر "نتفليكس" سيشكّل أبعادا جديدة لدى المتلقّي العربي والعالمي عموما.
في 2003، كانت إسرائيل دون أي نجاحٍ كبيرٍ على المستوى الفني والسينمائي، ولا بد من أن الإسرائيليين سئموا التيمة المكرّرة في تلك الأفلام، بالتضاد مع حالةٍ فلسطينيّة أكثر إبداعا، وأقل مباشرة، جيلا بعد جيل. منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، بدأت السينما الفلسطينية - الخارجة عن معيار إنتاج منظّمة التحرير - تظهر على الساحة العالمية، وراحت تبرز بوصفها سينما متطوّرة، بدءا بميشيل خليفي وفيلمه "عرس الجليل" (1987) الذي حاز جائزة النقّاد الدولية في "مهرجان كان السينمائي"، ثمّ تجربة إيليا سليمان وفيلمه الروائي "سجل اختفاء" (1996) الذي حاز جوائز أيضا، وأفلام رشيد مشهرواي وآن ماري جاسر وغيرهما كثر.
في عام 2003 تأسس "مشروع إسرائيل" (The Israel Project) وهو منظّمة للدعاية والفنون والعلاقات العامّة تهدف إلى تحسين صورة إسرائيل وترويجها في العالم عبر مختلف المنصّات المتاحة والتركيز على المنصّات التلفزيونية الأميركية
الألفية الجديدة
حقق الفيلم الفلسطيني في الألفية الجديدة حضورا جيدا أيضا، مع أفلام مثل "يدٌ إلهيّة" (2001) لإيليا سليمان الذي حاز جائزة لجنة التحكيم الخاصة في "مهرجان كان السينمائي" وفيلم هاني أبو أسعد "الجنة الآن" الذي حصل على جائزة "غولدن غلوب" وترشّح للأوسكار، ونال جائزة أفضل فيلم هولندي أيضا.
في عام 2003 تأسس "مشروع إسرائيل" (The Israel Project) وهو منظّمة للدعاية والفنون والعلاقات العامّة تهدف إلى تحسين صورة إسرائيل وترويجها في العالم عبر مختلف المنصّات المتاحة والتركيز على المنصّات التلفزيونية الأميركية مثل HBO. بدأت المسلسلات الأميركية البحتة في ذلك الحين تلتمس ذكر إسرائيل وفلسطين والقدس في حوارات ومواقف غريبة. ومع أن الالتفات إلى إسرائيل في الدراما الأميركية لم يتوقّف يوما، إلا أن بروز المنصات الإلكترونية أقلق إسرائيل تماما، فاجتياح الأجهزة اللوحية لسلطة السينما على المكان والزمان، سيجعل الفرد متملّصا من السيطرة القمعية لآلة الدعاية الإسرائيلية. فكل جهازٍ لوحي هو مدارُ وعي خاص ورغبة مختلفة على مستوى الإطلاع، ولا يمكن السيطرة على ما قد يراه. بالتالي لا يمكن السيطرة عليه، إلا بالسيطرة على المنصّات أو مهاجمتها. بدأت تظهر على "نتفليكس" عناوين مثل (The Angel) عن أشرف مروان الجاسوس المزدوج، ومسلسل (The Spy) عن إيلي كوهين الجاسوس الإسرائيلي في سوريا، وفيلم (Operation Final) عن عمليّة إسرائيلية لخطف ضابط نازي من الأرجنتين لمحاكمته في إسرائيل.
قبل وصول المُنتج الفلسطيني إلى "نتفليكس"، كان المُنتج الإسرائيلي يراوح ما بين نجاحات أجهزته الاستخباراتية، وقصصه التي يكون فيها ممجدا وقاتلا باردا، وبين طرح نوع من العنف المُقنّن، أو العنف الثعلبي، الجواسيس ورجال الدولة الإسرائيلية الأقرب إلى الرهبان ممّن كرّسوا أنفسهم لبناء الكيان وحمايته ضمن مخاطرات لا تنتهي، مع التركيز على أن العنف أمر لا بد منه، العنف الذي لا يعطي الآخر أي مساحة للتفاعل معه سوى بوصفه ميتا. قوام الماضي الذي ركّزت عليه هذه الرؤية، هو ماضي القوة الأمنيّ؛ جهاز التجسّس والأكشن والعنف والذكاء والحب، لكن بوصفه بطولة الإسرائيلي في كبت الشهوة من أجل العقل والسيطرة وتحقيق العدل.
35 فيلما
أصبح على "نتفليكس" زهاء 35 فيلما فلسطينيا، تنوّعت في إنتاجاتها، لكن ضمن مركزية المكان والمجتمع الفلسطيني. بعض الأفلام من إنتاجات أوروبية قديمة حازت شهرة سينمائية واسعة، لمخرجين فلسطينيين أصبحوا من أعلام السينما العربية والعالمية، وأفلام أخرى لمخرجين عرب ومن أميركا اللاتينية أيضا، إلا أن هذه الأفلام عصيّة على العرض بيسر، ذلك أن تبنّي "نتفليكس" عرضها سيشكّل حالة جديدة لدى المتابع العالمي والعربي، خاصة جيل الشباب. الحالة لن تكون فقط من موقع الاعتزاز بالفنون وقدرتها على التطهير والتعبير، بل أيضا كاطلاع على ثقافة الفلسطيني ووعيه وعلاقته بقضيته. لأغلب الأفلام الفلسطينية التي عُرضت قصصٌ طويلة وسرد، والأفلام التي تُعرض تبدأ من فترة التسعينات تقريبا، وهي فترة مهمّة لم تحظَ بتغطية عربية حتى. الزخم الذي كرّسته "نتفليكس" بعرضها الأفلام الفلسطينية، يمكن إيجاده بدءا من المقالات الصحافية التي كُتبت، وصولا إلى تصريحات المخرجين الفلسطينيين والعرب والحالة الاحتفائية التي شعروا بها، خاصة أن "نتفليكس" اليوم تقارب ما يتجاوز ثورة التلفزيون للمقدرة التقنيّة في جعل التجربة حميمية وفرديّة. في العموم هناك صعوبة لدى المُشاهد العربي والعالمي في الوصول إلى إنتاجات الفن الفلسطيني، ويُكتفى بفلسطين وثقافتها عبر الأخبار وصفحات وسائل التواصل.
"نتفليكس" كسرت جدال الواقع الذي خلقته هي سابقا حين اكتفت بعرض الفيلم والمنتج والرؤية الإسرائيلية فقط. انتهى الجدال الواقع على أحاديّة الطرح، هناك رواية أخرى وتاريخ لأفكار مختلفة سيشاهدها الجميع الآن. لم يعد للرسالة الإسرائيلية ذات المنشأ العنفي والتاريخي أبديةٌ إشهارية عبر المنصات ووسائل المشاهدة الأكثر حداثة. هذان الجدال والعرض سينهيان مفهوم أبدية الفكرة الإسرائيلية عن فلسطين المكان، وفلسطين الشعب.
وصول الأفلام الفلسطينية إلى "نتفليكس" هو وصول إلى المحاكاة الفلسطينية في وجه محاكاة رُسمت عبر عرض المنصة نفسها للمنتج الإسرائيلي والمحاكاة الإسرائيلية التي يُحرص عليها منذ عام 1948 لتكون بديلا من الواقع، الذي أصبح أقوى وأصدق من الواقع من خلال العالم المرئي كالسينما والتلفزيون. بعض الأفلام التي أعادت عرضها "نتفليكس" معروفة - كأفلام ايلي سليمان، وهاني أبو سعد، وآن ماري جاسر، ومهدي فليفل- تشكّل البداية الجوهرية لثقافة الفيلم الفلسطيني في آليّته ونطاقاته التعبيرية، خاصة الأفلام التي حقّقت جوائز واحتُفي بها في المهرجانات العالمية. إعادة عرضها هي تكريمٌ أولي وجوهري لتاريخٍ كانت فيه صناعة السينما حرفة نادرة المشاهدة على مستوى واسع، حيث تراجعت السينما العربية حدّ الندرة، لتُعيدها "نتفليكس" اليوم إلى الواجهة.
أفلام مثل "العبور- 2017" لأمين نايفة- وهو فيلم قصير- وفيلم "200م" 2020، وفيلم "الهدية" 2020 لفرح النابلسي، تتحدّث عن واقع الحيازة الإسرائيلية للواقع الجغرافي، الواقع التوتري الذي تمليه الحواجز الإسرائيلية على اليوميات الفلسطينية. الأهمية هنا في كسر الرابطة الحكائية التقليدية عن المواجهة اليومية مع الحكومة الإسرائيلية، وحجم الرقابة والفرض على الجسد الفلسطيني في حركته وكيانه. الأفلام تعرض تجربة الأجساد على الطرق، نماذج العقاب المخصصة لمراقبة السكان وتفتيت زمنهم، والاستثمار في تحقيرهم وتبديد وقتهم وإفشال عواطفهم، والرابطة الشخصية لكل فلسطيني سواء بالجدار، أو بالعساكر الإسرائيليين، بدءا من برودتهم وصولا إلى عنفهم، واستثمارات العنف الإسرائيلي في المواجهة المذلّة لحماية شكل عنفي في حيازة المكان واستحالة العيش فيه. هذه الأفلام الثلاثة وغيرها، ترسم شكلا لنوع الدولة الإسرائيلية، التي لا تكون فيها إسرائيل دولة مدنية بقدر ما هي دولة أمنية عنصرية، وحيوات أغلب الناس في مواجهتها لا تعدو تفتيت الذات والشخصية، خاصة مع ظهور الجدار العالي للفصل العنصري، ومحاولات الفلسطينيين تجاوزه والالتفاف حوله، وكيف يصبح الجدار - مُقدّس الدولة الإسرائيلية - الرمز الأكثر توافقا معها وغير الكافي لها لتمارس القهر والعنف. عموما تعيد أفلام الجيلين الأول والثاني من المخرجين الفلسطينيين عملية تصحيح عظيمة لرؤية المحاكاة الإسرائيلية الأحادية.
تبدو الأفلام الفلسطينية في مجملها على علاقة مع مكان فيه من العاطفي والخيالي والرمزي، دون التخلي بالطبع عن الجانب القهري وتفتيت تفاصيله. أفلام مثل "رجل يغرق" لمهدي فليفل، أو "السلام عليك يا مريم" بلغة كوميدية للمخرج باسيل خليل، تثير الدهشة بحداثتها وأهمية المقاربة وتغيّراتها.
وصول الأفلام الفلسطينية إلى "نتفليكس" هو وصول إلى المحاكاة الفلسطينية في وجه محاكاة رُسمت عبر عرض المنصة نفسها للمنتج الإسرائيلي والمحاكاة الإسرائيلية التي يُحرص عليها منذ عام 1948 لتكون بديلا من الواقع، الذي أصبح أقوى وأصدق من الواقع من خلال العالم المرئي كالسينما والتلفزيون
"فرحة"
فيلم "فرحة"، دراما أردنية من إخراج وتأليف دارين سلام، تروي لحظات اجتياح العصابات الإسرائيلية للقرى الفلسطينية عام 1984، وعلى الرغم من النقلة في الزمان والمكان، ومحاولة العمل على ماضٍ قديم أيضا، يضع هذا الفيلمُ المُشاهدَ في سياق الزمن الفلسطيني حتى يومنا هذا. الآلية الإخراجية تتسم باحترافيّة ملحوظة، خاصة في جعل المكان داخل الفيلم أشبه بمسرح، وللجريمة مشاهدون كُثر، والأهم في عين البطلة الفتاة داخل عتمة الغرفة، التي تشاهد فيها جريمة قتل عائلة كاملة وهي تحبس أنفاسها، تقطيع الصورة وتكرارها وتنويع درجات المحاكاة انطلاقا من شخصية الطفلة وصمتها. الكاميرا دقيقة جدا توحّد المشهدين بأعينٍ كثيرة، الحركة التي تدلّ دوما على ترقُّب جسد الضحية وثباتها. الضحية هنا رائية، أي أنها ذاكرةٌ تعيش وقد تنتظر موتا مشابها، حيوات الجنود والصمت والترقّب في القتل، ودلالة الجسد وهو يبتعد ويقترب من جريمته، والجسد الرائي الذي يحفظ المشهد بدل أن يُخفيه. تماما كان الفيلم هو الذاكرة الباقية أكثر من كونه حفرا تاريخيا من أجل الموت والانتقام والقتل.
ثم الخيمة، التي بدأت من بيت حجري وثقب صغير لرؤية ما جرى. الثقب الصغير الذي شاهدت منه الطفلة المجزرة، هو نفسه الثقب الذي ينظر منه العالم لرؤية مسرح القتل الذي افتعله الإسرائيليون. شيءٌ من عيني الفتاة والجريمة التي صوّرت ببطء، وطبيعة الفيلم وميقاته، جعلت الكيان الإسرائيلي كلّه في حالة غضب، وبدأت التصريحات ضد الفيلم تتوالى بشكل هستيري من ممثّلي الحكومة الإسرائيلية. عُصاب الهجر الطفولي، من يشعر باليتم في كل مرّة يرى واقعا لا يناسبه يظهر للعالم، حيث تبدو النداءات الإسرائيلية ضد الفيلم وعرضه عبر المنصات معبّرة عن اضطراب إسرائيلي عُصابي إلى حد لا يصدّق، وتفاصيل الاعتراض على عرض الفيلم عبر المنصة لا تتّسق البتة مع أي سلوك إسرائيلي. كالاعتراض على تصوير الجندي الإسرائيلي بموقف عنيف، أو حتى الاعتراض على وجود الفلسطينيين بالأصل في المنطقة. نسجٌ من الحجج والاعتراضات المفتوحة مع مظلومية تقليدية لا يتوقّف سردها منذ نهاية الأربعينات. يعود هذا بشكل كبير منه إلى عدم قدرة الرواية أو المحاكاة الإسرائيلية على استحواذ المكان أو حتى العقول بل الاحتجاج الطفولي والدراما والسينما الزائفة.
أطفال الحرب
المفارقة المزعجة للإسرائيلي توقيت شهرة الفيلم وانتشاره عبر "نتفليكس" ، فبعدما ترك الإسرائيليون ماضيهم، وملّوا تكرار تيمة المحاكاة الكاذبة عبر الفنون، جاء الفيلم الأردني كإعادة ومواجهة لمحاكاة ساذجة وغير واقعية عملت دولة الاحتلال سنين على بنائها. فيلم آخر مهم جدا هو "مولد في غزة" (2014) إخراج هيرنان زين، مخرج أرجنتيني رفقة صحافي إسباني، وهو فيلم أتاح للأبطال الأطفال والفتيان الظاهرين فيه طبيعة إخراجية خاصة؛ انسيابيّتهم، خفاء السؤال، سردهم لمآسيهم، لإصابات الحرب التي يملكونها، خطواتهم نحو رفاهيتهم وآلامهم، حجم الصورة وتعاقُب المشاهد والطريقة الانسيابية في العرض، كمضادّ لخطاب شفوي أو تلقيني أو إخباري لمعرفة أوضاع غزة بأطفالها ومصابي الحرب، وسكانها المُهمَلين الذين يعيش 80 في المئة منهم من المساعدات المقدّمة عربيا ودوليا. يركز مخرج الفيلم على تنسيق الصورة ببطء، كتضادّ مع لغة ما بعد الحداثة في السرعة. البطء في المشاهد والإعادة والحوار الغائب، يتيح لأطفال مصابين جرّاء العدوان الإسرائيلي بُعدا مسرحيا، لتتّسع الكاميرا لهم، وتشمل أجسادهم وأشياءهم وبيوتهم المهدّمة، طرقهم اليومية التي يسيرون فيها، بين الجسد والدمار في علاقة زيارة الأطفال الدائمة لبيوتهم التي فقدوها، حيث الجسد وبكائيّاته التي تتحوّل الى سياق من النظرات والصمت.
عرضُ الفيلم عبر "نتفليكس" حقق له شهرة وجدانية، وتسجيلا خلاقا لمنطقة تُعدُّ من أكثر مناطق العالم خطورة وصعوبة في العيش، خاصة أن الفيلم يستنطق أطفالا لم يصلوا بعد إلى عمر مناسب للانفصال عن أعمارهم، ومركزيّة شعورهم بحياتهم، وإدراك الأشياء من حولهم. ذاته الطفل الفلسطيني في غزّة يملك وعيا وإدراكا لواقعه وإمكان مستقبله أكثر من عقلية سلطة الاحتلال، فمقابل فضّ المركزية في التفكير الطفولي عند أطفال غزّة جراء قتلهم وإصابتهم وقتل آبائهم وهدم بيوتهم، لا يزالون يحافظون على نزعة غريبة من السلمية للتضادّ مع الحرب، ويقولون هذا من خلال الفيلم.
شيءٌ من التقانة الهائلة والضخ المالي الجيد حوّل "فوضى" إلى تحفة في نظر الكثيرين. يكفي الأعمال الفلسطينية أنها اكتشفت دَورَ الفن على حساب فنون تبدو مصطنعة برائحة موت، أو بتصوير أفضل تقنيا لثقافة الموت
"فوضى"
يتجلّى المنطق الطفولي للإسرائيليّين في تعاملهم مع السينما في أكثر إنتاجاتهم شهرة عبر "نتفليكس"، مسلسل "فوضى" المصنوع بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وكأنّ العالم سيبقى ضمن وعيهم العنفي، وإدراكهم بأن نظريّتهم ورؤيتهم لدولتهم ومجتمعهم والآخرين ملتصقة فيهم، ولا يملكون أي بعد موضوعي منفصل عن هذه المقاربة.
مسلسل لفريق أمني مستعرب، يتعاون مع عرب فلسطينيين يكونون إرهابيين فقط، دون أي دلالة أخرى لوجودهم وصراعاتهم المتتالية مع الفلسطينيين في الداخل والخارج. نجاح المسلسل على مستوى الإثارة وطبيعة الحركة جذب آلاف المشاهدين، وهو من أنجح الأعمال الإسرائيلية على الإطلاق، لسبب أساسي وهو اتّساقه مع البنية الدرامية التاريخية لدولة إسرائيل منذ بدئها في العمل الدرامي والسينمائي.
أي أن المسلسل ثمرة للتطور التقني النصي والإخراجي، ولاستعراض نزعة العنف وهي تحمل استهلاكا وسحرا فنيين. لقد تطور الإسرائيليون بعدما أفلحوا تماما بجعل شعبهم يظن أن الدولة الأسطورية امتلكت الجواسيس والأكشن على منصة احتفت فيهم، ثم أن كل ما يبدو ذكيا وعقلانيا سيكون من حصّتهم أمام عرب متخلّفين وأغبياء. تتوالى أجزاء مسلسل "فوضى"، يتيقظ الإسرائيليون لشهرة الدراما التي يكون فيها الخفاء شيئا جذابا، لكن أي خفاء؟ إنه خفاء السياسة والتيقّظ العنيف للقدرات التي قادت دولة إسرائيل إلى مقتلة لا يتوقّف تبريرها، ثقافة الصخب الخفي، العنيف في ذاته وفعله. المستعربون ومغامراتهم في الاكتشاف لا تتعدّى أن تكون حصّة مدرسية لجهاز مخابرات تحوّلت دروسه وخبراته إلى دارما.
تقديس العنف
تطورت السينما والدراما الإسرائيلية منذ 1948 حتى اليوم، دون أن تنزع عنها عباءة العنف والماضوي. التغيّر الوحيد الذي يمكن فهمه هو تغيّر الأساليب والمشاهد التي من خلالها يُقدَّس العنف ويُستهلَك. إنه فنٌّ ينعكس ذاتيا دون مخيّلة، أو حتى دون احتمال أن تكون الحياة الفنية بلا عُصاب الهجر، أو الشعور بالتطهّر من خلال العنف. بعد مئات الأعمال التي حاولت أن تخلق محاكاة ضديّة للواقع، لم تتمكّن السينما الإسرائيلية من الاستكانة للمنافسة بأدوات فنيّة، فهي لا تزال تحارب العمل الفلسطيني الذي استطاع أن ينجح قبل ظهوره عبر "نتفليكس" أصلا. لكن المفارقة هي شهرة مسلسل "فوضى" في أكثر من بلد عربي، التقانة الأدائيّة للعنف استطاعت جذْب المشاهد العربي حتى. في هذا كلام كبيرٌ عن خشية الوقوع في فخّ كلاسيكي؛ في أن تكون النوعية التقنية جذّابة على حساب المعنى المقدّم، شيءٌ من التقانة الهائلة والضخ المالي الجيد حوّل "فوضى" إلى تحفة في نظر الكثيرين. يكفي الأعمال الفلسطينية أنها اكتشفت دورَ الفن على حساب فنون تبدو مصطنعة برائحة موت، أو بتصوير أفضل تقنيا لثقافة الموت. هناك استثناءات إسرائيلية يمكن تتبّعها، نصوصٌ وسينما ودراما أزاحت وعي الحرب وتاريخ القتل، لكن السمة العامة تبدو هكذا؛ في أن تكون السينما مثالا للمواطن اليهودي العنيف الذكي وأدوات عنفه وتقنيّات استخدام العنف، هي اسطورةٌ على كل مواطن استدماج نفسه فيها. وفي الوقت نفسه أن يكون الآخر ميتا وخفيا، ودون أن تتبادل حوارا معه لإنهاء الحرب، ولا لجعلها ذاكرة تنتهي. دوما سيكون الما تحت قصصي أو سردي في السينما الإسرائيلية عنيفا.