حين وقعت رسالة عمرو بن العاص في وصف مصر بيد الكاتب الفرنسي أوكتاف أوزان (ت ١٩٣١م) ذهل من بلاغتها وعمقها وإيجازها. فترجمها، ونشرها في صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، وكتب حولها تعليقات عدة، وصف فيها كتاب عمرو بن العاص الذي أرسله إلى عمر بن الخطاب بأنه من أكبر آيات البلاغة في كل لغات العالم، وقال فيه إنه من الفرائد في إيجازه وإعجازه. واقترح وجوب تدريسه في جميع مدارس المعمورة، "حتى يتعلموا منه قوة الوصف ومتانة التعبير، وصحة الحكم على الأشياء، وكيفية تنظيم الممالك وسياسة الدول".
فما هي هذه الرسالة التي أثارت إعجاب ذلك الكاتب الفرنسي، ودفعته لأن ينشرها في صحافة بلاده؟ وماذا عن تلك المقولات والأوصاف الشائعة حول مصر التي تُنسب إلى عمرو بن العاص وفي طياتها إساءته لشعب مصر وتاريخها، هل قالها حقا؟ وهل تصح نسبتها لفاتح مصر وحاكمها الأول في تاريخ الإسلام، أم أنها مختلقة منحولة، منسوبة إليه زورا؟
تقارير جغرافية
قادة الفتح الإسلامي كانت لديهم عناية كبيرة بدراسة البلدان التي فتحوها، ودراسة أحوالها، والتعرف إلى طبيعتها الجغرافية والمناخية والاقتصادية والاجتماعية، ويبعثون في ذلك التقارير إلى عاصمة الخلافة الراشدة في المدينة المنورة، ومن الدلائل على ذلك أن عمر بن الخطاب كان يشترط على قادته شروطا ومعايير لاختيار مواقع العواصم، حيث اشترط ألا يحجبه بينه وبينهم بحر، ولا نهر، وهذا المعيار كان له أثر في تحول عمرو بن العاص عن اتخاذ العاصمة الإسكندرية، والتوجه لبناء مدينة الفسطاط، التي أصبحت أول عاصمة إسلامية في مصر وأفريقيا.
العرب وتأسيس المدن والعواصم
وكان من ثمرات هذه الدراسة لأحوال البلاد المفتوحة أن شيِّدت مدن وعواصم جديدة كانت بمثابة مناطق إدارية للحكم الجديد، ثم تحولت بعد ذلك إلى مدن مزدهرة عامرة بالسكان حتى يومنا هذا، ومن ذلك حين قام سعد بن أبي وقاص بعد فتح المدائن، ببناء مدينة الكوفة، كما يذكر عنه ابن كثير أن سعدا حين مر مع أصحابه على أرض الكوفة وهي حصباء جرداء، في رملة حمراء فأعجبته، ثم قال: اللهم بارك لنا في هذه الكوفة، واجعلها منزل ثبات. ثم اختطها، وكان أول بناء وضع فيها هو المسجد، ثم بنى قبالته قصرا للإمارة، وبنى الناس منازلهم، ثم أصبحت لاحقا أول عاصمة للخلافة الراشدة خارج جزيرة العرب. وفي المغرب قام عقبة بن نافع بتأسيس القيروان، وبنى أبو جعفر المنصور عاصمة العراق بغداد، وشيد المعتصم سامراء، والأمويون في الأندلس أسسوا أهم العواصم الأوروبية إلى اليوم، مدينة مدريد.
بناء المدن بهذا النحو، وتشييدها على أرض كانت فارغة، أو قاحلة، أو يقطنها عدد قليل من السكان، ثم تتحول بعد ذلك إلى أهم المدن في التاريخ، يدل على دراسة مسبقة، ووعي مبكر بالتفاصيل الجغرافية لتلك البلاد، واختيار دقيق وفق معايير مدنية وحضرية واقتصادية لتشييد المدن، التي كُتب لها أن تدوم وتزدهر، مهما تعاقبت عليها الدول والممالك.