فلسفة الشائعة ومنطقها

فلسفة الشائعة ومنطقها

هل نقول شائعة أم إشاعة؟ هل الشائعة اسم فاعل، "يتقوم بذاته" كما يقول الفلاسفة، ويفعل هو نفسه، أم أنها، لكي تشيع، تحتاج إلى فاعل يعمل على إشاعتها ونشرها؟ يجيبنا اللسان: "شاع الخبر في الناس يشيع شيعا وشيعانا ومشاعا وشيعوعة، فهو شائع، انتشر وافترق وذاع وظهر. وأشاعه هو، وأشاع ذكر الشيء، أطاره وأظهره. وقولهم: هذا خبر شائع، وقد شاع في الناس، معناه قد اتصل بكل أحد، فاستوى علم الناس به، ولم يكن علمه عند بعضهم دون بعض".

يبدو إذن أن الاسمين ينطبقان على هذا المسمى بحسب السياق الذي يشيع فيه. لذا فإننا سنستعملهما معا حسب ما يمليه السياق. ولنبدأ بالتوقف عند خصائص هذه الظاهرة القديمة التي أصبحت تتكاثر في مجتمعاتنا المعاصرة، بما تسهّله على ذيوعها وسائط الاتصال الجديدة. ولعل أولى هذه الخصائص أن الشائعة لا تُنقل عن مصدر معيّن. صحيح أننا نستطيع أن نضبطها في لحظة من لحظات تنقّلها بين الأفواه والآذان، لكننا لا نعثر لها على منبع. فهي تتناقل من غير أن تُنقل. إذا كان الخبر في حاجة إلى وسائط لبثه وإلى حوامل تنقله، فإن الشائعة ليس لها حوامل. يمكننا أن نطّلع عليها دون أن نطالعها. إنها تؤخذ على أنها من باب "ما يُقال"، وليس ما صرَّح به هذا المصدر أو ذاك. وهي، كما يقول بلانشو "تتمتع بقدرات ذاتية، فهي ليست في حاجة لمن يفرضها ولا لمن يتحمّل مسؤوليتها". إنها "تنتمي إلى فضاء كل ما يقال فيه قد سبق قولُه، وسيستمر، ولن ينفك يقال". ما أعلمه عن طريق الإشاعة لا بد أنني سمعته من قبل: إنه ما يُتناقل. وبما هو كذلك، فهو لا يتطلب فاعلا من ورائه. كأن الإشاعة تتولد من ذاتها. إنها، كما يؤكد بلانشو: "لا تتوخى إلا الذيوع والانتشار". بهذا المعنى، فربما ليس من الضروري، اعتبارها "إشاعة" من ورائها فاعل، وإنما مجرد "شائعة" مستغنية عن كل ذات فاعلة.

ثم إن الشائعة "لا تبحث عن أداة تعبير تفصح عنها، ولا عن وسيلة إثبات تؤكد صحتها". فهي لا تقاس بسند تعتمد عليه، ولا بتماسك الخطاب الذي تنقله ومدى معقوليته. قوتها ليست في مضمونها، وهي لا تستمدّها من أهمية ما تقوله وما "تروّجه"، فهي تتنقّل في فضاء يوجد "خارج الصدق والكذب". إنها ليست خبرا كاذبا ينتظر "تصحيحه" ليخبر عن الواقع الفعلي، لكنها ليست بالخبر الصادق. بل إن أية نيّة لجرّ الشائعة إلى المنطق ومحاولة تصحيحها أو تكذيبها لا تعمل في النهاية إلا على تقويتها كشائعة. فكأن تكذيب الشائعة لا يزيدها إلا "صحة"، ولا يعمل إلا على إنعاشها ورواجها. وكل ردّ على الشائعة هو دوما مساهمة في نشرها. كأن كل محاولة لإخضاع الشائعة لـ"المنطق" إذكاء لبعدها عنه، وزيادة في انفصالها و"نموّها" في فضائها الخاص. فالشائعة تزداد قوة بإضعافها.

ما أعلمه عن طريق الإشاعة لا بد أنني سمعته من قبل: إنه ما يُتناقل. وبما هو كذلك، فهو لا يتطلب فاعلا من ورائه. كأن الإشاعة تتولد من ذاتها

 لشدة قوة الشائعة وما تحدثه من بلبلة، جعل اليونان منها إلهة من الآلهة. وبالفعل، فإن الشائعة تتمتع بقوة خارقة، وقوتها لا تكمن في ما تنقله وعمّن تنقله، وإنما في ما تُحدثه وما يتولد عنها، وما يخلّفه ذيوعها من عواقب. فالإشاعات بمفعولاتها. الشائعة لا تخبر، وإنما تدلّ  وتشير، إنها "علامة على" أكثر منها "شاهدا على". مقابل "جفاف" الخبر، فإن الإشاعة تتميز بنوع من الخصوبة. وهي لا تقتصر على نقل المتحقق، وإنما تكشف عن الممكن. بهذا المعنى فهي أكثر إخبارا عن الواقع الفعلي من الخبر نفسه. فإذا كان الخبر يكتفي بنقل الحدث، فإن الإشاعة تجسّ نبض من تشيع بينهم، فتخبر، لا عن أحوالهم، وإنما عن أحلامهم وتطلعاتهم. وبهذا المعنى فهي لا تكتفي بالإخبار عن الواقع، وإنما تسهم في تشكيله وتوجيهه، وربما حتى في صنعه. ما يهمّ هو ما يتولد عن ذيوعها من ردود أفعال. إذا كان الخبر ينقل ما تمّ وحصل، فإن الشائعة تستهدف ما سيأتي. تُوظّف الشائعة من أجل "تحسّس" واقع الأمور، "وجسّ  نبض" الأشياء. إنها خبر عن الخبر. وقد كانت الشائعة دوما سلاحا قويّا عند السّاسة، إذ بإمكانها أن تعلي من شأن بعضهم، إلا أنها قد تعمل على "تدمير" آخرين. فقبل أن تعيّن   حكومة من الحكومات، تأتيك الشائعات بعدد هائل من التشكيلات، وذلك لا يتم اعتباطا. وربما للغاية نفسها، يبدو أن كثيرا من "النجوم" يحرصون على ترويج إشاعات عن أنفسهم لفتا للأنظار، وإثارة للاهتمام، وتكريسا للحضور.

قلنا إن الشائعة لا تحتاج في نقلها إلى حوامل ووسائط. غير أن ظهور الوسائط الجديدة سهل على الشائعات ذيوعها، فحتى إن لم تعمل تلك الوسائط على تغيير بنية الشائعة، إلا أنها زادت من مفعولها بما يسّرته من إمكانيات الذيوع والانتشار. ثم إن تلك الوسائط أصبحت تمهد نوعا ما لضبط مصدر الشائعة. فرغم أننا قلنا إن الشائعة، بما هي كذلك، فهي مجهولة المنبع، إلا أننا اليوم، مع الوسائط الجديدة، حتى إن كنا لا نستطيع دائما أن "نضبط"مصدر الشائعة، إلا أننا قد نتمكن من متابعة تسلسل التناقل لكي نقف على مصدر. وليس المهم ما إذا كنا نتوَفّق دوما في ذلك، المهم أن هوس المصدر، والتساؤل بصدده، صار ملازما لذيوع الشائعات.

لشدة قوة الشائعة وما تحدثه من بلبلة، جعل اليونان منها إلهة من الآلهة. وبالفعل، فإن الشائعة تتمتع بقوة خارقة، وقوتها لا تكمن في ما تنقله وعمّن تنقله، وإنما في ما تُحدثه وما يتولد عنها، وما يخلّفه ذيوعها من عواقب


ثم إن الوسائط الجديدة تسمح اليوم للشائعة، لا أن تتنقل في صورة اللغة والكلام وحدهما، وإنما عن طريق الصورة كذلك، مع ما يتيحه ذلك من تركيب وتوليف وفبركة ومونتاج. عن طريق هذه الوسائط اتسع فضاء الشائعات فكبرت حجما وازدادت توثيقا. هذا فضلا على أنها تمكّن من "تخزين" الشائعة وتمديد عمرها بهدف إنعاشها متى اقتضت الضرورة ذلك، وتطلَّب الواقع شيئا من الانفلات. على هذا النحو يمكننا أن نقول إن الوسائط الجديدة زادت من خصوبة الشائعات وقدرتها على التوليد والتوالد. صحيح أن الشائعة كانت دوما تتميز بخصوبتها عن جفاف الخبر، إلا أن تلك الخصوبة كانت محدودة سواء في مفعولها أو في توليدها. أما اليوم فإن الشائعات تكبر، وتتجسّد في صور، كلما انتقلت وتناقلت، كأنها كرة ثلج تتدحرج على الشبكة فيزداد "تضخيمها" و"توثيقها".

فضلا عن هذا، فإن الوسائط الجديدة قد غيرت من زمن الشائعة بأن مددت عمرها. صحيح أننا، حتى قبل ظهور هذه الوسائط كنا نتبين أن الشائعات لا تموت ولا تمّحي، حتى إن كانت تخفت وتفتر فيتضاءل مفعولها، إلا أن وسائط اليوم أصبحت تُمَكن من تخزين الشائعة، وبالتالي من إنعاشها متى سنحت الفرصة واقتضت الضرورة أن تسهم لا في الإخبار عن الواقع، وإنما في المساهمة في صنعه.

font change