أوّل السُّلَّم الروائيّ وآخرُه

أوّل السُّلَّم الروائيّ وآخرُه

أُولِيَ الاهتمامُ بالجُملة الافتتاحيّة البِكْرِ في الرواية، كأوّلِ دَرَج في السُّلَّمِ الحكائيّ يستقبلُ القارئَ بعد عتبةِ العنوان، وَقَدْ ارتهنَ نجاحُ وشهرةُ الكثير من الأعمال الروائيّة إلى العبارات الفاتنة التي استهلّتْ بها ألاعيبهَا السّرديّة، فيما يشبه رأس الخيط الأفعواني الذي نتعقّبهُ وهو يستدرجُنا بارتياب وغواية إلى خرائطه المجهولة، هائما بنا في طُرُقه الملتوية، المنعطف تلو الآخر، صوب غابته السّحريّة الدّاغلة.

كلّ شيء يبدأ من هنا، وأنتَ تتذوّق فاكهة السّطر الأوّل من الرواية، فإمّا تستمرئ المذاق وتستحسن مغامرةَ المضيِ في رحلة شاقّة ومُمتعة في آن، أو تترك عنك ذلك متبرّما، مُشيحا ببصركَ نحو ما تراهُ قمينا بَبَذْل كَنز وقتكَ.

مثلما هو السّطر الأوّل من الرواية بمثابة الشّرارة التي يحتكمُ إليها الروائيّ في إشعال حطب موقده الحكائيّ، هي نفسها الشّرارة التي قد تشعل حطب الرّغبة بالنسبة للقارئ كي ينقاد وراء حممها البركانية، غائصا في بحيرة اللهب الحميمة.

هذا السّطرُ المريبُ من الرواية لا يخيّرُكَ بلباقة دائما، ولا يهبكَ فرصةَ انتظار واختيار، إنّما يسطو عليك أحيانا، ورغما عنك يجرفكَ إلى النّهر، هاربا بك إلى أقاصيه.

ثمّة رياحٌ سحريّةٌ أو يدٌ خفيّةٌ في السّطر الأوّل تتلقّفكَ من ياقة قميصكَ كما لو كنتَ متواريا وسطَ جمهور غفير، وتزجّ بك داخل حَلَبَةِ الرواية، كي تلاكم وتصارع وتناور، وسرعان ما تستسيغ اللعبة وتغدو كقارئ خصما وندّا للكاتب نفسه.

هكذا هو السّطرُ الذهبيّ الأوّلُ، إمّا زوبعةٌ تقتلعك ممّا أنت شارد، ساهم فيه، متطايرة بك في سماء الحكايات الطارئة، المتشعّبة، اللامألوفة..

أو أريجٌ يَفْغَمُكَ عبقهُ، فتتعقّب دليل رائحته إلى حدائقه المعلقة..

أو حبّة عنب أهرقتْ نبيذها في نخْب يطوّحُ بك إلى ما لذّ من الغرابة وطاب من التّخييل، ثملا باسكتشاف المجاهل...

وعلى هذا النّحو ذاع صيتُ روايات عالميّة بافتتاحيّاتها المثيرة بالقدر نفسه الذي اشتهرت بعناوينها وأبطالها، بل أحيانا لا نكاد نذكر منها سوى تلك الاستهلالات الأنيقة، الدّامغة كأوّل قُبْلة في تجارب الحبّ، مثل: "قصة مدينتين" لشارل ديكنز، و"دكتور جيفاغو" لبوريس باسترناك، و"التحوّل" لفرانز كافكا، و"الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي، و"الغريب" لألبير كامو، و"قصّة موت معلن" لغابرييل غارسيا ماركيز... إلخ

لكن، ماذا عن السّطْر الأخير من الرواية؟ ولماذا أُهْمِلتْ خطورتُهُ هو الآخر من لدن الكثيرين؟

لَا غَرْوَ، بالقدر الذي عُرفتْ رواياتٌ عالميّة وعربيّة بألقِ عباراتها الأولى، الشبيهة ببروق شيطانيّة في عتمة مطبقة، عُرفتْ كذلك أخرى بنسْغ عباراتها الأخيرة. كلّ ما في لعبة الرواية على قدر كبير من الأهميّة والقيمة والمعنى، عنوانا وبداية وَمَتْنا واختتاما، فضلا عن مجمل أدواتها التي تتخلّقُ بها كينونتُها السّردية، تخييلا وشكلا وشخصيّات و... إذا ما احتكمنا إلى التدبير الروائي الأفقي، بخلاف ذلك، لا بداية ولا متن ولا اختتام إطلاقا في بعض الأعمال الروائيّة التجريبية منها على وجه خاصّ إذا ما احتكمنا إلى التدبير العمودي للهندسة الروائيّة، أو التدبير المهووس بالما بعد والمآلات.

ومع ذلك، يظلُّ ثقلُ الفتنة رهينا بالتّفّاحِ الذهبيّ المبتهج في غصن العنوان أو فَنَن الافتتاحيّة أو عسلوج النهاية، وبالذّات قليلة هي النّصوص الروائيّة التي نجحت في أن يكون سطرُها الأخير ثمالة تؤبّدُ نشوة القارئ، أو أثرا غائرا في ذاكرة القراءة أطول ما يكون أو أبدا.

كلّ شيء يبدأ من هنا، وأنتَ تتذوّق فاكهة السّطر الأوّل من الرواية، فإمّا تستمرئ المذاقَ وتستحسن مغامرةَ المضيِ في رحلة شاقّة ومُمتعة في آن،  أو تترك عنك ذلك متبرّما، مُشيحا ببصركَ نحو ما تراهُ قمينا بَبَذْلِ كَنْزِ وقتكَ

يشبهُ السطرُ الأخير في الرواية الدَّرَجَ الأعلى في السُّلَّم، إذ يطأه القارئُ يلمس السّحابَ، يرى العالم من عل شاهق وقد تفتحت الأبدية تحته كزهرة اللوتس الزّرقاء، إثرها يقفز القارئ من هذا الدّرَج كأنّما صارخا: "هنا الوردة، هنا أقفز"، تلك العبارة التي استعارها هيغل من الأسطورة الإغريقيّة "هنا صخرة رودوس، هيّا اقفز".

بل إنّ السّطر الأخير من هكذا روايات مريبة، يخلدُ أكثر ممّا تخلدُ عناوينها، ولا يكفّ صخبُ الدّالِّ الموسيقيّ الكامن في كيمياءِ هذا السّطر اللاسع من إنتاج أزيز المعاني، فيتحوّل وَفْقَ سياقات وأنماط من التداول إلى مقولة فلسفيّة، إلى كوجيطو، إلى صيغة مفهوميّة تختزلُ نسقا، إلى لازمة في الحوار العامّ، إلى يافطة جمالية، إلى شذرة أو صرخة كونيّة.

كيف ننسى كقرّاء العبارة المدوية من رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني: "لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان؟".

ألا تتمثّلُ  هذه العبارة المُجلجلة البيانَ الصّارخَ لتراجيديا الرّاهن العربي عامّة وليس الرّاهن الفلسطينيّ وحدهُ على نحو خاصّ، بل ينسحبُ معناها على الإنسانيّ. يكفي أن تُذْكَرَ العبارةُ المأساويّةُ لكي يخطر في البالِ اسمُ الكاتبِ  وعنوان الرواية، وكأنّ الرّوايةَ استغنتْ عن عنوانِها لصالحِ سطرها الأخير المجلجل، أو سطرها الأخير المشحوذِ بلذوعية، هو من قلب السّحر كلّه واستفرد به، فحجبَ دويّهُ المسنونُ في نصلِ السؤالِ السّوداويِّ  ألقَ العنوانِ ومجمل الوقائع.

وبذات الوتيرة والأثرِ نذكر لمْعةَ نصلِ السكّينِ في السّطر الأخير من سيرة "الخبز الحافي" لمحمد شكري: "فاتني أن أكون ملاكا".

وعلى هذا المنوال لا يتلاشى الطّعمُ الحرّيف، المرّ واللذيذ في آن لقَفْلاتِ عشراتِ الرّوايات وأكثر: "مائة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، و"الحارس في حقل الشّوفان" لـ: ج. د. سالنجر، ورواية "مولوي" لصموئيل بيكيت، و"العدو" لجيمس دروت، و"البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا... إلخ

أمّا الأبْلَغُ استثناء من كلّ ما سبقَ، هو أن تنجح الرّواية في اجتراحِ الأمرين معا، الافتتاحية والختم، أن يكون كلا سطريها، الأوّل والأخير عظيمان وهذا نادرٌ، يمكنُ التّمثيلُ له برواية "ثلاثيّة نيويورك؛ لبول أوستر.

على هذا النّحو ذاع صيت روايات عالميّة بافتتاحيّاتها المثيرة بالقدر نفسه الذي اشتهرت بعناوينها وأبطالها، بل أحيانا لا نكاد نذكر منها سوى تلك الاستهلالات الأنيقة، الدّامغة كأوّل قُبْلة في تجارب الحبّ


إن كان السّطر الأوّل من الرواية شبيها بصفعة على الخدّ، لها مفعول إيقاظنا من غفلة المجرى اليومي الرّتيب، فما عساهُ يكون تأثيرُ السّطر الأخير؟

إنّه شبيهٌ بصعقة شمسيّة خاطفة تلفحُ جليدَ أيّامنا القطبيّة، أو هي حصاةٌ هَوَتْ إلى  قعر أغوارنا مخلّفة صدى هائلَ الموسيقى، يظلُّ  يتناسل رَجْعُهُ مُطوّلا، إلى ما لانهاية.

font change