فلسطين... النكبة في السينماhttps://www.majalla.com/node/291306/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A8%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86%D9%85%D8%A7
أرسلت شركة "لوميير" الفرنسية منذ العام 1896 مصوّرين لها إلى بقاع العالم ومدنه لتصوير أفلام تُعتبر اليوم تسجيلية، وفي زمنها كانت اللون الوحيد من الأفلام: أشرطة قصيرة عن موضوع واحد وبسيط مثل حريق أو آثار زلزال أو سوق تجاري أو معلم أثري الخ.
كانت فلسطين من بين المناطق التي أوفدت إليها الشركة فرق تصويرها. ففي سنة 1897 وصل أحد مصوّريها مع كاميرته إلى القدس وصوّر عددا من تلك الأشرطة فيها. كلها لم تعد موجودة باستثناء فيلمين لهما دلالات.
عنوان أحدهما هو "مغادرة القدس بالقطار" Leaving Jerusalem by Railway . العادة التي اعتمدتها أفلام "لوميير" بالنسبة إلى تصوير القطارات هي (إلى حين ذلك الفيلم على الأرجح) نصب الكاميرا على رصيف المحطّة ورصد وصول القطار وترجّل ركّابه، كما الحال في أفلام الشركة الأخرى مثل:Panorama de L’arrivée ed gare de Perrache Pris du Train وArrivée d’un Train a Perrache. . لكن هنا تكمن الكاميرا عند نهاية القطار وتتطلع منه إلى الواقفين على الرصيف. يبدأ القطار تحركه ببطء، ما يمنح المُشاهد فرصة النظر إلى الرجال والنساء الذين لا يزالون واقفين على رصيف المحطة انتظارا لقطار لاحق أو بعدما ودّعوا من جاؤوا لتوديعه. راقب الفيلم جيّدا فسوف تجد أن من بين هؤلاء الواقفين على الرصيف من يرتدي زيا عربيا (فلسطينيا) ومن يرتدي الطربوش التركي، لكنك لن تجد من يرتدي الزي اليهودي أو يضع على رأسه ما يُشير إلى يهوديّته.
لم تكن الشركات الفلسطينية تُنتج الأفلام، بل استكانت إلى توزيع الأفلام المصرية، في حين تقوم معظم الشركات اليهودية بعمليات إنتاجية تشمل، حتى ذلك الحين، أفلاما وثائقية لأغراض تعريفية وأيديولوجية وسياسية
اهتمامات متباينة
لكن الأفلام التي انتجها يهود حاولوا فيها التمهيد لربط القدس خصوصا وفلسطين على نحو عام، بحق اليهود في فلسطين كعاصمة دولية للديانة اليهودية، لم تتأخر كثيرا بعد ذلك. ففي سنة 1904 زارت البريطانية موراي روزنبيرغ فلسطين، وهي كانت على صلة وثيقة بتيودور هرتزل، والتقطت صورا فوتوغرافية لبلداتها ومدنها. بعد ست سنوات عادت إلى فلسطين بكاميرا أفلام وصوّرت شريطا قصيرا سمّته "أول فيلم عن فلسطين" The First Film Of Palestine.
العنوان لا يعبّر عن الحقيقة مطلقا، إذ إن شركتي "باتيه" و"غومون" الفرنسيّتين (وقبلهما "لوميير") أرسلتا مصوّرين قبل وصول المخرجة البريطانية. أكثر من ذلك، أنتجت شركة بريطانية هي Charles Urban Trading Company سنة 1904 فيلما بعنوان "رحلة إلى فلسطين، يافا ومينائها" (A Trip to Palestine, Jaffa and its Harbor).
في تقرير نُشر سنة 1947 (قبل عام واحد من النكبة) في كتاب سنوي عن السينما، كانت دار النشر البريطانية الشهيرة "بينغوين" تصدره في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، كتب أحد مراسليها تقريرا عن الوضع السينمائي ذكر فيه عدد شركات الأفلام في فلسطين في ذلك الحين ملاحظا أن شركات السينما الفلسطينية كانت سبعا فقط في مقابل 12 شركة "يهودية"، حسب تعبيره.
إلى جانب التفاوت بين الجانبين، مع طغيان عدد الشركات التي يملكها مهاجرون يهود وصلوا لتوّهم إلى فلسطين، لاحظ الكاتب أن الشركات الفلسطينية لا تُنتج، بل استكانت إلى توزيع الأفلام المصرية، في حين تقوم معظم الشركات اليهودية بعمليات إنتاجية تشمل، حتى ذلك الحين، أفلاما وثائقية لأغراض تعريفية وأيديولوجية وسياسية.
يجعلنا هذا مباشرة أمام وضع لا يمكن التخفيف من شأنه: لقد مكّنت الثقافة الغربية التي عايشها اليهود المهاجرون إلى فلسطين، من فهم أهميّة السينما وتأثيرها، بينما اعتبرها العرب عموما، آنذاك تحديدا، اختراعا صُمّم للترفيه يمكن توظيفه لجلب المال وليس لإنفاقه. من بين ما هو مثير للاهتمام منذ ذلك الحين، عدم ارتباط السينما بأي مشروع ثقافي او سياسي لفلسطينيين يعيشون فوق أرضهم، في حين كانت واحدة من أدوات السيطرة الصهيونية على السردية التاريخية.
مكّنت الثقافة الغربية اليهود المهاجرين إلى فلسطين من فهم أهميّة السينما وتأثيرها، بينما اعتبرها العرب عموما، آنذاك تحديدا، اختراعا صُمم للترفيه يمكن توظيفه لجلب المال وليس لإنفاقه
نماذج غربية
الواقع أن تاريخ ما قبل حدث معيّن يرتبط عضويا بتاريخ ما بعده. في هذا السياق فإن الوجود الفلسطيني (الذي طالما وصفه سياسيون وزعماء إسرائيليون بأنه لم يكن أكثر من حضور لقبائل صحراوية بلا حضارة) واضح في ما التقط من أفلام وثائقية، بالإضافة إلى تلك الأفلام التي دعت إلى إنشاء دولة إسرائيل.
الفارق، هو سوء استغلال الفلسطينيين السابق للسينما وقدراتها البلاغية في الوقت الذي عمدت فيه تلك الإسرائيلية (قبل النكبة وبعدها) إلى السينما في نوعها الإعلامي والترويجي مستخدمةً الفيلم الوثائقي أولا.
لم يخل عقد من وجود أفلام حول القضية الفلسطينية والإحتلال الإسرائيلي، إلا أن نقل هذه القضية العادلة إلى إعلام سياسي أو ثقافي كبير بقي محدود الأثر، في حين استندت الآلة الإعلامية الإسرائيلية إلى عنصرين أساسيين في عملية نقل "شهاداتها" و"روايتها" ونوع تاريخها إلى العالم.
العنصر الأول: وجود سينمائيين يهود منتشرين في الغرب قادرين على تحقيق أفلام تخدم اسرائيل، سواء بحثت في الهولوكوست وتبعاته أو في حق العودة إلى أرض التوراة وتأسيس الكيان اليهودي.
العنصر الثاني، أن هوليوود، في الأساس، كانت بدورها مستعدة لإنجاز أفلام تعرض ذلك "الحق" الإسرائيلي في فلسطين كما الحال في فيلم "شتات" (Exodus 1960) لأوتو برمنغر، و"سيف في الصحراء" لجورج شرمان (1949). الدوافع السياسية ليست خافية في تلك الأفلام التي تحدّثت عن أوضاع فترة ما بعد النكبة تأكيدا لنوع أو آخر من أنواع الحق في امتلاك الأرض واستعادة التاريخ من وجهة نظر دينية (تتداخل فيها أيضا النوازع والأغراض السياسية البحتة).
إلى ذلك، فإن قدرة العنصر الأول المكوّن من أفراد على توظيف الشركات الغربية (عموما) لتحقيق تلك الأفلام هي بمثابة التقاء نموذجي بين جانبين على هدف واحد. وفي الكثير من الأحيان سنجد، في هذا الاستعراض، كيف أن الدراما قد تبدو بعيدة عن الغاية السياسية، قبل أن تكشف عن كونها أداة أخرى في جذب المُشاهد (الغربي أساسا) إلى اعتماد وجود إسرائيل كحقيقة لا يمكن تجاهلها.
هذه هي حال "البهلواني" The Juggler الذي حققه إدوارد ديمتريك سنة 1953. فبطله (كيرك دوغلاس) خرج من معتقل النازيين ووصل إلى فلسطين حيث يريد أن ينتمي لكنه لا يزال يحمل مشاكل نفسية على الرغم من استعداد المؤسسة هناك لمنحه حق اللجوء ورعايته وتوفير فرصة حياة جديدة وآمنة له.
فيلم آخر لكيرك دوغلاس، الذي توفي سنة 2010 وكان معروفا بتأييده الدولة الإسرائيلية، يبدو فيه كأنه وصل إلى فلسطين لغاية نبيلة. الفيلم هو "ألق ظلا عملاقا" Cast a Giant Shadow أخرجه ملڤيل شاڤلسون سنة 1966. هنا هو ضابط أميركي سابق يصل إلى فلسطين قبل سنة واحدة من النكبة لرعاية مشروع إنشاء "الهاغاناه" التي ستدافع عن يهود فلسطين من "اعتداء" الفلسطينيين عليهم بعدما قررت بريطانيا تقسيم البلاد بين عرب ويهود.
أفلام الشعارات
يجب عدم الاعتقاد أن السينما العربية لم تتفهم الدور المنوط بها، لكنها عالجت الموضوع الفلسطيني في العديد من الأحيان، وخصوصا في الستينات ومطلع السبعينات، بسلسلة من الأفلام الركيكة فنيا وإنتاجيا وإعلاميا. أفلام ذات نيات حسنة لكنها لا تتمتع بالإجادة الفنية لكي ترفع صوت القضية عالميا. الوجهات الوحيدة لمثل تلك الأفلام (التي انتجتها "فتح" و"الجبهة الشعبية" وجهات فلسطينية وأحيانا لبنانية) كانت الجمهور العربي (ليس جميعه بالطبع) والمهرجانات الشرق أوروبية (لايبزيغ، موسكو...).
خلال تلك الفترة كان هناك زخم كبير من الأفلام التسجيلية والوثائقية الإحتجاجية التي ترفع شعار المقاومة والفداء. الجمهور الذي وُلد قبل النكبة أو خلال السنوات اللاحقة لها، كان لا بد له من أن يؤيد هذه الدعوات التي تحمل في جوهرها حقوقا مهضومة لعدالة واستعادة وطن وسلام. لكن النبرة العسكرية في هذا الصدد لم تكن نافعة ولا تصوير المخيّمات الفلسطينية وحياة البؤس فيها على نحو يطلب التعاطف.
عندما انبرى الراحل كريستيان غازي لتحقيق فيلم "الفدائيون" سنة 1967 حمل في صدره رسالة ايجابية، لكن الفيلم لم يؤد إلا إلى خروج أفلام روائية تستغل العواطف الفطرية للجمهور لتحقق عائدات مادية كبيرة إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وقبل أن يكتشف الجمهور أنها أعمال تستغل القضية للكسب وتكرر نفسها خلال ذلك.
من هذه الأفلام "كلنا فدائيون" لغاري غارباتيان (1969) و"الفلسطيني الثائر" لرضا ميسر (1969) و"فداك يا فلسطين" لأنطوان ريمي (1969) و"أجراس العودة" لتيسير عبّود (1970) وصولا إلى "الاختراق" لكنعان كنعان (1974).
يكشف فيلم "خارج الإطار: ثورة حتى النصر" لمهند يعقوب (2017) عما وقف وراء عدد كبير من أفلام تلك المرحلة وما آلت إليه. فيلمه جامع لما شهدته القضية الفلسطينية آنذاك من أفلام دعائية حققها بإيمان لا يعرف سبيلا آخر مخرجون تسجيليون مثل العراقي سمير والفلسطينيين مصطفى أبو علي وهاني جوهرية واللبناني رفيق حجار والأردني عدنان مدانات (رغم أن أفلامه لم تكن صرخات مولولة أو استغلالا ظرفيا بل وثائقيات معتنى بها أكثر من سواها).
وسيلة المخرج مهند يعقوب، التذكير بالتاريخ عبر وثائق من صحف وملفات وصور أرشيفية، لكن دوره خلال ذلك لا يبتعد عما أحاط تلك الأفلام من قبول بالشكل المتواضع المتاح.
يجب عدم الاعتقاد أن السينما العربية لم تتفهم الدور المنوط بها، لكنها عالجت الموضوع الفلسطيني في العديد من الأحيان، وخصوصا في الستينات ومطلع السبعينات، بسلسلة من الأفلام الركيكة فنيا وإنتاجيا وإعلاميا
مخرجون جادّون
على أن الفترة نفسها شهدت أفلاما جيدة حول هذا الموضوع. كان لا بد من أن يدرك مخرجون ذوو قدرة على فهم الأسلوب الذي يمكن من خلاله معالجة قضية كهذه، كيفية التزام السينما غير الجماهيرية وقدراتها على طرح ما يترك تأثيرا فكريا ومعرفيا في المتلقين.
في العام 1974 أنجز برهان علوية فيلمه "كفر قاسم". وقد أرّخ هذا الفيلم الروائي المنفّذ بأسلوب السينما غير الروائية لمجزرة كفر قاسم التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي سنة 1956 بعد أيام من تأميم القناة، وتبدأ بتعريفنا بالشخصيات ومن بينها سمسار العمّال الذي يتعاون مع المختار لإقناع الفلسطينيين بالعمل عند رب عمل إسرائيلي. في الوقت الذي تخطط فيه القيادة العسكرية للإيقاع بفلسطينيين أبرياء عائدين من حقولهم فتعلن حالة الطوارئ نهارا وتقبض عليهم ليلا بتهمة خرقها ثم تعدمهم بلا رأفة. الجريمة لا تزال بلا محاكمة، ومرتكبوها، ماتوا أو لا يزالون أحياء، لم يمتثلوا لأي قانون.
ينتقد الفيلم، بوضوح، استغلال بعض الفلسطينيين للوضع عند محاولتهم الافادة من الإحتلال، إما بالتحول إلى أزلام، وإما عبر مسايرة الأوضاع المعيشة، وإما عبر احتلال مراكز وسيطة يمكن من خلالها إرضاء المسؤولين من جهة واستغلال الإنسان الفلسطيني الذي صنّـفه الحكم الطبقي عاملا أو مزارعا وفقيرا في الحالتين من جهة أخرى.
لكن أجندة المخرج علوية هنا تدين المجزرة من دون افتعال أو مغالاة. يلقي المخرج اللبناني ضوءا على الفلك المحلي الذي تدور فيه الشخصيات والحياة داخل القرى الفلسطينية إجمالا التي ترتكز على وجود فئات من الناس أغلبها من الفئة العاملة وعلى أنماط حياة تتضمّـن أجواؤها الكبت في ظل السلطة المحتلة وعملائها ومعيشة قاسية ضمن المخطط الكبير المدبر للاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم وحرمانهم من أية حقوق مشروعة والنيل منهم. هذا لا يعني أن هذا المخطط بدأ بمجزرة كفر قاسم بل فعّل منذ اللحظات الأولى للاحتلال سنة 1948 بشواهد متعددة.
اقتبس برهان علوية مادة فيلمه من رواية لعاصم الجندي، وقبل ذلك بعامين كان هناك اقتباس روائي مهم آخر (ومختلف أسلوبيا) هو "المخدوعون" للمخرج المصري توفيق صالح الذي استوحى رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" وصنع منها واحدا من أفضل أعماله.
هذه تدور حول تبعات النكبة من حيث محاولة ثلاثة فلسطينيين التسلل إلى بلد خليجي عبر صهريج ضخم بمعرفة السائق الذي سينطلق بهم من عمّان إلى ذلك البلد. المعاناة الفردية كبيرة والفيلم ينتهي بمأساة موت الثلاثة بسبب الحر الشديد الذي لا يمكن تحمّله داخل الصهريج.
في كثير من الأفلام التي أنجزها عرب من فلسطين وخارجها لم تعد النكبة في حد ذاتها هي مجال طرح مباشر، بل تبعاتها
النكبة ومآلاتها
هناك اشتراكات من مخرجين عرب عديدين لكن الكرة تقع في أيدي مخرجين فلسطينيين هذه الأيام ولأسباب واضحة، فكل من رشيد مشهراوي وهاني أبو أسعد وميشيل خليفي وسواهم، عاشوا تبعات ما بعد النكبة وما زالت تشغل بالهم.
يُلقي المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي في فيلمه "استعادة" (2021) الذي شهد عرضه العالمي الأول في الدورة الأولى من مهرجان "البحر الأحمر" في المملكة العربية السعودية، نظرة حانية وتعليقا من نوع الذكريات مع مشاهد عديدة ومقابلة مع حيفاوي يوفّر صورة كاملة للحياة الاجتماعية والثقافية لمدينة حيفا، التي ولد فيها، قبل احتلالها.حيفا قبل 1948 كما لا نعرفها. أناسها وشوارعها وبحرها وصيادو السمك ومرتادو المطاعم والمقاهي وصالات السينما. تحية للمدينة التي عاشت عائلة مشهراوي فيها قبل نزوحها إلى قطاع غزّة.
يجري المخرج رشيد مشهراوي بصوته الهادئ وطريقته المفضّلة في الإلقاء، مقابلة مع حيفاوي قديم (الطاهر القليبي) يتذكر الماضي كأنه يمر أمام عينيه الآن. الفيلم مشغول بتوليف يتيح له سرد تاريخ نابض بالحكايات والنواحي الإجتماعية المختلفة للحياة. يتوقّف من خلال ذكريات القليبي، على صالات السينما في حيفا الأمس البعيد، مثل "الشرق" و"نبيل" و"الحمرا"، ويعرض بعض ما كان فلسطينيو ذلك الزمان يشاهدونه من أفلام مصرية مثل "نشيد الأمل" مع أم كلثوم (نسمع كذلك بعض أغانيها) و"ضربة القدر" مع يوسف وهبي. كل ذلك مع ابتعاد مشهراوي المعتاد عن الإثارة الخطابية والسياسية، منتهجا الرغبة في تناول ما هو فلسطيني من خلال ذاكرة مواطنيها وقدرة السينما على الإيحاء بزمن مضى. يستخدم المخرج الصوت للإيحاء بالحياة. مشاهد البحر تمتزج مع صوت الأمواج. المقاهي مع أصوات مغنين. الوثائقيات المختارة تعكس مستوى حياة شعبية جميلة وتوليف هذه المشاهد بعضها مع بعض والانتقال منها إلى المتحدث عنها سلس وجيد.
قبله بسنوات عديدة تصدّى المخرج الفلسطيني المهاجر ميشيل خليفي إلى موضوع تبعات النكبة والاحتلال عبر فيلمين مهمّين هما "ذاكرة خصبة" (1981) و"عرس في الجليل" (1987). في كثير من الأفلام التي أنجزها عرب من فلسطين وخارجها، لم تعد النكبة بحد ذاتها هي مجال طرح مباشر. ليست النكبة عند هؤلاء (بينهم كذلك هاني أبو أسعد وإيليا سليمان) هي محط البحث بل تبعاتها كما الحال في "يد إلهية" لإيليا سليمان و"الجنة الآن" لهاني أبو أسعد.
في هذا الإطار ينبغي ضم فيلم كوستا غافراس، "هانا ك." (1983) إلى تلك الأعمال المهمّة التي تناولت مشكلة الانتماء الفلسطيني إلى فلسطين بعد النكبة. في هذا الفيلم تدافع المحامية جيل كلابورغ عن قضية فلسطيني (محمد بكري) يحاول العودة إلى أرضه (فوقها منزله المهدمّ) بعدما استولت عليها الحكومة الإسرائيلية بقرار قضائي. غبريال بيرن في دور ممثل الجهة الإسرائيلية التي تحاول عرقلة إجراء مثل هذه الاستعادة. يذكر أن الفيلم لم يلق عروضا تجارية واسعة انعكاسا لخوف الشركات الأجنبية من عواقب طرح مثل هذا الموضوع المؤيد للحق الفلسطيني.
في مطلع أحد أفلام المخرج الفرنسي جان لوك غودار يمسك المخرج صورتين تحيطان جيدا بكل ما عنته النكبة في نهاية المطاف. الصورتان مأخوذتان من عام النكبة، الأولى لقارب يحمل لاجئين فلسطينيين وهم يغادرون شاطئ حيفا هربا (غالبا صوب لبنان)، الثانية لباخرة تصل إلى أحد الشواطئ الفلسطينية محمّلة مهاجرين. التعليق الذي يتبناه المخرج الفرنسي يمكن تلخيصه بثلاث كلمات: شعب بدل شعب.