آني إرنو و"التسلق" الاجتماعي

آني إرنو و"التسلق" الاجتماعي

رفضت الروائية الفرنسية آني إرنو طرح مادتها كسيرة ذاتية، من أجل الرؤية والحدس والذاكرة، فكتبت تاريخ حياتها كمادة شبه روائية وأدبية، ربما معرفية واجتماعية، وبالتالي مانعت في مجمل رواياتها التي شكلت طفولتها وشبابها وخبرتها، أن تُطرح كسيرة. عن أسباب ذلك قالت في مقابلة تلفزيونية لها في السبعينات: "أرفض أن أكتب من أجل التركيز على سيرتي، فماذا يهم كيف تشكلت طفولتي في محل بقالة والديّ في منطقة النورماندي؟".

استثمرت إرنو التجربة الشخصية في تجربتها الروائية لأنها مقتنعة بطريقها، ولم تقبل بأن تكتب من أجل التركيز على مادة سيرتها الذاتية. لذا نجد أعمالها تجمع ما بين الخبرة التاريخية والخبرة الفردية، لنستشعر في أعمالها بساطة ذلك الصعود الاجتماعي لوالديها الريفيين، كأنها أرادت شرح التسلق الاجتماعي لأغلب الطبقات الريفية الفرنسية في الربع الثاني من القرن العشرين، انطلاقا من قريتها في النورماندي شمال فرنسا، حيث العمال في الريف وما يكابدون، وانطلاقا من تجرية والديها وهما من تلك الطبقة، ومكافحتهما المستميتة للخروج من تلك الدرجة. مع ذلك بقيت كتابتها محايدة، سواء من حيث الحقائق التاريخية في السرد، أو من حيث أسلوبها البارد الواقعي والمحدود، إلا أنها منحت تأملا في كتاباتها السطحية حول الحزن والحرب، كأنها فعلت ذلك تماشيا مع قول الفيلسوف والناقد الفرنسي رولان بارت، الذي كان أستاذها، وما كان يدعو إليه من "الكتابة البيضاء". هذا النوع من الكتابة كما نرى اتخذه مجمل الكُتّاب العرب الجدد، كأسلوب واقعي للقارئ المعاصر، فحينها كانت الأعمال النقدية تدور حول البنية الروائية التي باتت متغيرة انطلاقا من أطروحات التيار الفكري ما بعد الحداثي.

نريد من القارئ أن يقرأ النص ليصبح بعدها منتجا، أو مفكرا مستقلا، وهذا لن يحدث إن تقبل القارئ النص الذي يقرأه كما هو وبشكله التقليدي، بل عليه أن يتفرع بفكره إلى أشكال مختلفة

هذا التأثير البنيوي على الكاتبة كان طبيعيا خاصة أن الفارق العمري بينها وبين رولان بارت أستاذها وملهمها كان 25 عاما، كما أن أعماله مستمدة من تجربته الشخصية، إن تحدثنا من زاوية القصص، فكان يؤكد دائما أن النصوص الأدبية المكتوبة يجب ألا تسيطر على القارئ، ولا تجعل من المُطّلِع شخصا مستهلكا، فليس هذا الهدف الذي نريد، بل نريد من القارئ أن يقرأ النص ليصبح بعدها منتجا، أو مفكرا مستقلا، وهذا لن يحدث إن تقبل القارئ النص الذي يقرأه كما هو وبشكله التقليدي، بل عليه أن يتفرع بفكره إلى أشكال مختلفة، وهذا ما حصل مع إرنو الفائزة بجائزة نوبل، التي اتجهت إلى هذا الأسلوب الجديد في منتصف القرن العشرين، في ألا تصبح القراءة فعلا طفيليا، بل أن تكون فعلا تكامليا مستمرا، كما في كتابها "امرأة" الذي تسرد فيه عن والدتها، وكيف نشأت منذ بدايات القرن العشرين كريفية، وكيف تزوجت والدها، وكيف حلما بالتغيير. وتسرد بشكل غير مباشر، وقائع حياة والديها، لتوظف لغتها البسيطة والتأملية والهادئة طريقا إلى القارئ للحصول على معرفة التغييرات الاجتماعية في ظل الحرب العالمية الثانية، ومقاومة الريفيات الطموحات للارتقاء بحياتهن الريفية من خلال قراءة الدوريات الثقافية وبعض الكتب، ومتابعة السينما، مع العمل ليل نهار في مشروع تجاري صغير، ليصبح الصعود الاجتماعي واضحا في تلك الفترة، سواء في فرنسا أو غيرها من الدول المجاورة.

الجميل لدى إرنو أنها تحض القارئ على متابعة بقية كتبها، فتَذكر والدها ولا تكمل، وتقول إنها ذكرته في الرواية الأخرى، وهكذا بالنسبة إلى زوجها وأمها ثم طليقها... فيصبح القارئ متشوقاً لقراءة بقية كتبها كأنها سلسلة متقدمة لأفراد الأسرة، وبالتالي لأفراد المجتمع، فالوطن، وذلك بالتناسق مع الأحداث التاريخية وحقائقها التي أثرت على الحياة الاجتماعية.

تشعر وأنت تقرأ لها، بأنها لم تخطط لوحتها الروائية، ولا يوجد نص أدبي أو شعري، إنما كتابتها إنسانية مدفوعة برغبة في زعزعة المفاهيم الأدبية والاجتماعية منها تحديدا، كأن الأمور أكثر نبلا في آليات الذاكرة والإحساس بالوقت، من خلال الحديث عن الطبقة العاملة في منطقة النورماندي الفرنسية، المتشعبة في ثقافتها وجغرافيتها بحدودها المتصلة، وهي من تلك الطبقة. أما نيلها جائزة نوبل 2022، فلأن أسلوبها من الأساليب التي حفظت شيئا من الوقت، وحافظت على ذاكرة النهج الاجتماعي، كأنها عالمة اجتماع، كما أن أسلوبها يوحي بالهروب من فخ الفردانية التي أصابت العالم حينها، فكتبت ذاتها النقية باستعادة وجوه وأسماء وعائلات لا تاريخ لهم، وهذا ينطبق على أغلب الذاكرة الغربية، وربما بعض دول الشرق.

 تشعر وأنت تقرأ لها بأنها لم تخطط لوحتها الروائية، ولا يوجد نص أدبي أو شعري، إنما كتابتها إنسانية مدفوعة برغبة في زعزعة المفاهيم الأدبية والاجتماعية منها تحديدا، وكأن الأمور أكثر نبلا في آليات الذاكرة والإحساس بالوقت

تقول آني إرنو:

"أعتبر نفسي كائنا فرديا، بالمعنى الأصيل للفردي، لكنني أيضا مجموعة من الخبرة الاجتماعية والتاريخية والجنسية واللغات، وفي حوار مستمر مع الماضي والحاضر، وأستخدم ذاتيتي الفردية في الكتابة من خلال مسيرتي".

هكذا نجد أن آني إرنو بكتابتها السيرة الاجتماعية، لم تبتكر السيرة الذاتية فقط، بل "السيرة الذاتية الخاصة"، وتخترع نوعا أدبيا لعملها، وتنطلق منه كابنة ريفية، وابنة لطبقة صغار التجار التي جعلت منها طالبة، ثم معلمة، ثم كاتبة، إلى الآليات الاجتماعية المصاحبة للصعود الاجتماعي (ويقول البعض التسلق) لتكتب أعمالها، وتصبح أول امرأة فرنسية تنال جائزة نوبل للآداب. 

font change