ستينات الاستقرار والضيق الأمني
حاول الفلسطينيون تنظيم أنفسهم من خلال أندية كشفية تتبع الكشاف العربي الفلسطيني، وتقوم بتدريب شبه عسكري بلا سلاح. لكن العمل السياسي في المخيمات لم ينطلق فعليا وواسعا إلا بعد هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967. وفي الستينات عرف الفلسطينيون استقرارا اجتماعيا نسبيا سببه انتقالهم من السكن في خيم القماش إلى البناء بألواح الصفيح والخشب وجزئيا بالحجارة، والسماح لهم بإنشاء حمامات خاصة، بدل المشتركة. وهناك من أسس محالّ ومؤسسات صغيرة. وقد أحصى كاتب هذه السطور 21 محلا ومؤسسة لفلسطينيين في جوار مخيم برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية بداية الستينات. وهذا ما دفع كثيرين إلى البحث عن حاجات أبعد، فانتسب شبان إلى حركات وأحزاب سياسية: القوميون العرب، البعث، السوري القومي. وإذا اتخذنا الحرب الأهلية الصغيرة العابرة في لبنان عام 1958 مثلا، لاحظنا أن تفاعل الفلسطينيين معها ومشاركتهم فيها، كانا ضيقين جدا. فقُتل أفراد فلسطينيون قليلون بعيدا عن المخيمات التي بقيت هادئة تماما. ومن القتلى عنصران من الحزب السوري القومي الاجتماعي في صيدا. وبعد تمحيص ربما يمكن اعتبار حقبة الستينات المرحلة الذهبية للفلسطينيين في لبنان. ويلاحظ نشوء صداقات واسعة في تلك الحقبة بين الفلسطينيين واللبنانيين. وهي أثّرت في تركيب الهوية الفلسطينية وتطورها، وعلى العصبيات العائلية والبلدية.
ترافق هذا مع جعل السلطة اللبنانية الجديدة - أي العهد الشهابي ومكتبه الثاني بعد وعكة حرب 1958 الأهلية الصغيرة - المسألة الأمنية في رأس أولوياتها: وضعت قيودا على الفلسطينيين داخل المخيمات. منعت تجمع أكثر من شخصين منهم، قراءة جريدة أو سماع نشرة أخبار في مكان عام. وحظرت سهرهم إلى ما بعد الساعة العاشرة. ومنعت تنقلهم من منطقة إلى أخرى إلا بإذن خطي من السلطات اللبنانية. وأُنشئ مكتب أمني للشعبة الثانية على مدخل كل مخيم للمتابعة الأمنية.
مع الاستقرار النسبي والشعور بالضيق والغبن، وتعمّق الانتماء إلى المكان والارتباط به بعد سنوات من الإقامة فيه، ونشوء مطالب مشتركة بين أهل المخيم الواحد، بدأت تظهر أطر للتنسيق والاجتماعات في المخيمات. فتشكلت في كل مخيم لجان أهلية تتبنى مطالبه، وتضم أعيان القرى، وتتولى صلة المخيم بالأونروا وبالسلطات اللبنانية. ويورد أحمد حسين اليماني أخبارا وشهادات عن ذلك في مذكراته بعنوان "تجربتي مع الأيام" بأجزائها الخمسة (دار كنعان). أدى ذلك إلى بداية نشوء عصبية واسعة تشمل المخيم، وأقرب إلى أن تكون "مخيمية"، وتنافس العصبيات الصغرى العائلية القروية وذات البعد السياسي والأيديولوجي.
أما على صعيد الحضور الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي الفلسطيني في تلك الحقبة، فيمكن ضرب بعض الأمثلة القصوى: يوسف بيدس (مؤسس بنك انترا)، حسيب الصباغ وسعيد خوري (مؤسسا شركة CCC)، رفعت النمر (مؤسس بنك بيروت للتجارة)، إضافة إلى العشرات من أساتذة الجامعات والمئات من الرياضيين.
وتطور عمل حركة القوميين العرب وحزب البعث في لبنان والمخيمات الفلسطينية في تلك الحقبة، مع تراجع حضور حزب التحرير (الإسلامي) والحزب السوري القومي الاجتماعي نتيجة وقوفهما ضد الموجة الناصرية الجارفة. أما حركة "فتح" فبلغ عدد أعضائها 80 في لبنان أوائل سنة 1966، حسب يزيد صايغ (الكفاح المسلح والبحث عن الدولة).
لا بد من ملاحظة مهمة في هذا السياق: كانت المخيمات الفلسطينية تتأثر بقوة بالعالم الاجتماعي والسياسي خارجها، أكثر بما لا يقاس من تأثير المخيمات بمحيطها اللبناني الخارجي. وربما بسبب المراقبة الأمنية القائمة في المخيمات. وبسسب إقامة الطبقة الوسطى الفلسطينية المحركة للعمل السياسي خارج المخيمات. وكانت النوادي اللبنانية القومية العربية مقصد أبناء المخيمات: النادي الثقافي العربي في بيروت وطرابلس، نادي التضامن في صور، نادي الجهاد في صيدا، نادي التعاون الرياضي في حارة صيدا، ونادي متخرجي المقاصد في بيروت.
عاصفة الكفاح المسلح
لكن عاصفة هزيمة 1967 وهبوب عاصفة العمل الفدائي الفلسطيني التي تلت الهزيمة، غيرتا هذه المعادلة وقلبتاها رأسا على عقب: بدأ فتيان وطلاب لبنانيون يتدربون على السلاح في المخيمات، مدفوعين بموجة الكفاح المسلح. ودفعت "معركة الكرامة" في الضفة الغربية سنة 1968 ألوف الفلسطينيين في لبنان وكثرة من اللبنانيين إلى الانخراط في فصائل الثورة الفلسطينية، بعدما سقط خليل عز الدين الجمل شهيدا لبنانيا أول في صفوف الثورة الفلسطينية.
سرعان ما صار الفلسطينيون وثورتهم المسلحة جزءا من الانقسام الأهلي والسياسي اللبناني، ومؤثرين فيه بقوة. وجاء اتفاق القاهرة (1969) ليؤكد حيثية القوة الفلسطينية الجديدة المسلحة في لبنان. فرحل الأمن اللبناني تماما حول المخيمات التي توسعت إلى خارجها للمرة الأولى منذ النكبة. وشُرّع العمل الفدائي الفلسطيني في لبنان. وجرت محاولات رسمية للتفاهم ومنع الانفجار العسكري اللبناني-الفلسطيني. وظهرت شرائح لبنانية طائفية وطبقية ناقمة على السلاح الفلسطيني وعلى ما اعتُبر تدخلا فلسطينيا في المعادلة اللبنانية.
وكان أول الحوادث الكبرى المشهودة عام 1969: إطلاق مسلحين من أهالي بلدة الكحالة المسيحية النار على موكب تشييع فدائيين فلسطينيين تنقل جثامينهم إلى سوريا. وقتل في تلك الحادثة 14 فلسطينيا. وهذا ما أدى إلى هجوم مسلحين فلسطينيين من مخيم برج البراجنة على بلدة حارة حريك المجاورة وسقوط قتلى منهم. وكانت مثل هذه الحوادث مقدمة للحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975.
هكذا أخذت تنحسر العلاقة اللبنانية-الفلسطينية الاجتماعية التي كانت متشعبة في مؤسسات تعليمية وتجارية ورياضية واجتماعية، لتتحول إلى علاقات سياسية وأمنية بالمنظمات العسكرية الفلسطينية الناشطة والمسيطرة على المخيمات وجوارها. وصار يُنظر إلى المخيم بوصفه بؤرة أمنية. وتحولت منطقة الفاكهاني القريبة من مخيم شاتيلا عاصمة الثورة الفلسطينية ومقر قياداتها. وبعد طرد الفدائيين من الأردن سنة 1970، لم يبق لهم سوى لبنان ومخيماته ملجأ. وقد عبّر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان شفيق الحوت عن قسرية ذلك الخيار بقوله: "لقد حطت الثورة في لبنان لأنه كان حديقة من غير سياج". وفي المحصّلة صار للفلسطيني، إضافة إلى الهوية الوطنية الفلسطينية ثلاث هويات فرعية: القروية والمخيمية والفصائلية.
وفي بداية السبعينات بدأت مغادرة كثرة من المتعلمين والمثقفين الفلسطينيين المخيمات. وهم أولئك الذين لم ينخرطوا مباشرة وعمليا وميدانيا في الكفاح المسلح. فأقام شطر من هؤلاء خارج المخيمات، وهاجر شطر آخر كبير إلى خارج لبنان، إما بحثا عن ظروف عمل أفضل في الخارج (خاصة في دول الخليج) وإما اعتراضا على إدارة العمل المسلح.
ساهمت هذه الهجرة من المخيمات في تكريس المحلية والبلدية الفلسطينية فيها، وأضعفت التواصل غير المسلح بين الفلسطينيين واللبنانيين. ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، استقطبت الفصائل الفلسطينية ألوف الفلسطينيين واللبنانيين من سوق العمل في لبنان. صحيح أنهم كانوا عمالا، لكنهم فقدوا دورهم الإنتاجي الحقيقي في الاقتصاد اللبناني، وتقلّص دورهم التواصلي المهم مع المجتمع اللبناني. ففي عام 1980 مثلا، كان لـ"فتح" 15000 مقاتل مسجلين على جدول الرواتب بمن فيهم الإداريون، إضافة إلى 25000 عنصر ميليشيا. هذا عدا العاملين في باقي الفصائل الفلسطينية ومؤسسة "صامد".