مجتمع المخيمات والهويات الفلسطينية المتعدّدة

تعاطف وقلق

لكن العلاقات والمبادلات في زمن ما قبل الشتات الفلسطيني تختلف عنها في زمن اللجوء. فحتى تعاطف اللبنانيين مع مأساة الفلسطينيين، سرعان ما شابته توترات أهلية لابست العلاقة بين الطرفين، وشرّعت الأبواب على مخاوف لبنانية من تأثير اللجوء الفلسطيني على الميزان الديموغرافي الطائفي الدقيق في لبنان. قبل ذلك كانت الوكالة اليهودية قد استثمرت التوترات والمخاوف اللبنانية الداخلية لتوقّع اتفاقا سريا مع الرئيس اللبناني إميل إده عام 1937، ومع ممثلي جماعات روحية في لبنان. وفشلت الوكالة اليهودية في عقد اتفاقات شبيهة في سوريا، على الرغم من لقاءاتها مع زعماء سوريين ومحاولاتها إثارة "القلق الأقلوي"، وطرحها فكرة "حلف الأقليات" (يمكن العودة مثلا إلى كتاب "دروز في زمن الغفلة" الصادر عن "مؤسسة الدراسات الفلسطينية").

كان سهلا على الفلسطينيين في بداية لجوئهم التعامل مع المشاعر اللبنانية المتراوحة بين القلق والتعاطف. وربما كان نأي الفلسطينيين بأنفسهم عن تفاصيل الوضع اللبناني يهدّئ قلق اللبنانيين منهم، حينما كان الشائع آنذاك أن اللجوء الفلسطيني "رحلة قصيرة موقتة" يعود اللاجئون بعدها إلى بلادهم.

لذا اختار الفلسطينيون المناطق القريبة من الحدود بداية للجوئهم، لتسهل عليهم العودة. ورفضوا أن يوصفوا لاجئين، مفضلين مصطلح نازحين، لشعورهم أن مصطلح لاجئين يستبطن الديمومة. ثم إن كلمة نازحين تعني أنهم لا يزالون ضمن "الوطن العربي". حتى إن قصيدة الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد (1927 - 2020) "إننا لعائدون" المنشورة سنة 1956 تختار مصطلح نازحين: "فاصرخوا يا نازحون/ إننا لعائدون".

وزاد طمأنينة الفلسطينيين أن رئيس الجمهورية اللبنانية بشارة الخوري (1890 - 1964) خاطب اللبنانيين قائلا: "لا تبخلوا ببذل المال في سبيل راحتهم والترفيه عنهم، لأن الأخ لأخيه في أيام المحنة والشدائد". وكذلك فعل وزير الخارجية حميد فرنجية (1907 - 1981) حين قال: "سنستقبل في لبنان اللاجئين الفلسطينيين مهما كان عددهم، ومهما طالت إقامتهم، ولا يمكننا أن نحجز عنهم شيئا، ولا نتسامح بأقل امتهان يلحق بهم، وسنقتسم في ما بيننا آخر لقمة من الخبز".

لكن القلق اللبناني كان أقوى من تلك الكلمات العاطفية، فبرز في جلسات المجلس النيابي اللبناني. فالنائب الكتائبي جوزيف شادر (1907 - 1977) قال سنة 1951 إن هناك نحو 50 ألف عاطل عن العمل من اللبنانيين، في معرض انتقاده عمل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. فصدر قرار بتسفيرهم إلى سوريا، وراح القطار ينقل بعضهم إليها من دون معرفتهم إلى أين ينقلون. ولما وصلوا إلى قرب نهر البارد شمال لبنان وعرفوا أن سوريا وجهتم، احتجوا ورفضوا متابعة ترحيلهم ومكثوا هناك، فأنشئ لهم ما صار يُعرف مخيم نهر البارد شمال طرابلس.

وحمل الضياع والتعب كثرة من الفلسطينيين على العودة إلى قراهم ومدنهم، على الرغم من تشديد الإجراءات الإسرائيلية الحدودية. وكانت تكلفة عودتهم عالية. فالمؤرخ الإسرائيلي بني موريس يشير إلى أن سلطات بلاده الأمنية قتلت ما بين 3000-5000 فلسطيني حاولوا اجتياز الحدود للوصول إلى قراهم بين العام 1948 والعام 1956.

مركب التعاطف-القلق اللبناني ومشاهد بؤس الفلسطينيين واحترام واجبات الصداقة والمصاهرات القائمة قبل النكبة واللجوء، حملت السلطات اللبنانية على تكوين "اللجنة المركزية العليا للإغاثة" لتقديم المساعدات إلى الفلسطينيين وتحسين واقعهم الاجتماعي. وأصدرت قانون "ضريبة فلسطين". وأعفى مجلس مدينة بيروت البلدي الفلسطينيين من الرسم البلدي في عامي 1952-1953.

على الصعيد الشعبي ساد تعاطف بين أهالي أكثرية القرى والمدن اللبنانية مع الفلسطينيين، فتساهلوا في تأجيرهم بيوتهم وتقديم مساكن لهم مجانا. والأرض التي أنشئت عليها المخيمات الفلسطينية الثلاثة في بيروت (برج البراجنة، شاتيلا، ومار الياس) كانت تقدمة من أصحابها، لشيوع الظن أن العودة قريبة.

حقل ألغام وعصبيات بلدية وحنين

لكن ذلك كله سرعان ما تكشف عن حقل ألغام في علاقة اللبنانيين بالفلسطينيين، وفي العلاقات الفلسطينية الداخلية. فالاختناق وعدم الاستقرار هما سمة اجتماع اللجوء: والمخاوف والفوضى الإدارية اللبنانيتان أدتا إلى إنشاء مخيمات وتفكيكها، ونقل لاجئين من منطقة إلى أخرى لأسباب أمنية وطائفية وصحية. وصدر عام 1955 أمر عسكري لبناني نص على أن قيادة الجيش تمنع سكن وتجول الغرباء (الفلسطينيين) في المنطقة الواقعة على مسافة عشرة كيلومترات ضمن الأراضي اللبنانية على طول خط الحدود الجنوبية. فضاعف هذا قلق اللبنانيين والفلسطينيين معا، ورسخ لدى اللبناني اليقين بأن اللاجئ الموقت أصبح مقيما وينافسه في معاشه ويهدد توازنات لبنان الداخلية.

ولّد التشرد واللا استقرار والبحث عن لقمة العيش شعورا بالضعف والهوان لدى الفلسطينيين. عصبياتهم العائلية التي كانت منغرسة في اجتماعهم ما قبل الشتات حطمها الشتات. ففي القدس مثلا كان الصراع بين "الحسينية" (آل الحسيني) و"النشاشيبية" (آل النشاشيبي) هو السائد، وله ما يماثله في معظم البلدات والقرى الفلسطينية. أما في مخيمات اللجوء فاستبدلوا عصبياتهم العائلية التي عاشوها في فلسطين بعصبيات قروية وبلدية مرصوصة تؤمّن لهم الحماية. فأهل كل قرية حرصوا على التجمع في مخيم واحد، وفي ناحية محددة من المخيم. وبعض الذين نزحوا إلى سوريا راحوا يلتحقون بأقاربهم وأهل قراهم في مخيمات لبنان. وراح أهل كل أهل قرية يسكنون حيا في المخيم عُرف باسمهم. وهذا ينطبق على المخيمات من نهر البارد في أقصى الشمال إلى الرشيدية الأقرب إلى فلسطين جنوبا.

هكذا نشأت عصبيات قروية تتميز كل منها بتقاليد خاصة، ويجمعها الحنين إلى الماضي المبتور. وتعزز تلك العصبيات حاجة أهلها إلى التآزر وتحقيق مصالح مشتركة: مساعدة الفقراء والعاطلين عن العمل. ويلاحظ أن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين - الأونروا التي استوعبت أعدادا كبيرة من الموظفين والعمال الفلسطينيين، سعى موظفوها إلى توظيف أقاربهم وأبناء قراهم فيها. فهذا يستجيب مع العلاقات العصبية ويدخلها إلى الأونروا. على هذا المنوال صيغت علاقة سكان المخيمات بالأجهزة الأمنية اللبنانية التي نشطت في مراقبة نشاطات اللاجئين السياسية والحزبية، على الرغم من أنها كانت ضعيفة حتى بداية الستينات.

ستينات الاستقرار والضيق الأمني

حاول الفلسطينيون تنظيم أنفسهم من خلال أندية كشفية تتبع الكشاف العربي الفلسطيني، وتقوم بتدريب شبه عسكري بلا سلاح. لكن العمل السياسي في المخيمات لم ينطلق فعليا وواسعا إلا بعد هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1967. وفي الستينات عرف الفلسطينيون استقرارا اجتماعيا نسبيا سببه انتقالهم من السكن في خيم القماش إلى البناء بألواح الصفيح والخشب وجزئيا بالحجارة، والسماح لهم بإنشاء حمامات خاصة، بدل المشتركة. وهناك من أسس محالّ ومؤسسات صغيرة. وقد أحصى كاتب هذه السطور 21 محلا ومؤسسة لفلسطينيين في جوار مخيم برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية بداية الستينات. وهذا ما دفع كثيرين إلى البحث عن حاجات أبعد، فانتسب شبان إلى حركات وأحزاب سياسية: القوميون العرب، البعث، السوري القومي. وإذا اتخذنا الحرب الأهلية الصغيرة العابرة في لبنان عام 1958 مثلا، لاحظنا أن تفاعل الفلسطينيين معها ومشاركتهم فيها، كانا ضيقين جدا. فقُتل أفراد فلسطينيون قليلون بعيدا عن المخيمات التي بقيت هادئة تماما. ومن القتلى عنصران من الحزب السوري القومي الاجتماعي في صيدا. وبعد تمحيص ربما يمكن اعتبار حقبة الستينات المرحلة الذهبية للفلسطينيين في لبنان. ويلاحظ نشوء صداقات واسعة في تلك الحقبة بين الفلسطينيين واللبنانيين. وهي أثّرت في تركيب الهوية الفلسطينية وتطورها، وعلى العصبيات العائلية والبلدية.

ترافق هذا مع جعل السلطة اللبنانية الجديدة - أي العهد الشهابي ومكتبه الثاني بعد وعكة حرب 1958 الأهلية الصغيرة - المسألة الأمنية في رأس أولوياتها: وضعت قيودا على الفلسطينيين داخل المخيمات. منعت تجمع أكثر من شخصين منهم، قراءة جريدة أو سماع نشرة أخبار في مكان عام. وحظرت سهرهم إلى ما بعد الساعة العاشرة. ومنعت تنقلهم من منطقة إلى أخرى إلا بإذن خطي من السلطات اللبنانية. وأُنشئ مكتب أمني للشعبة الثانية على مدخل كل مخيم للمتابعة الأمنية.

مع الاستقرار النسبي والشعور بالضيق والغبن، وتعمّق الانتماء إلى المكان والارتباط به بعد سنوات من الإقامة فيه، ونشوء مطالب مشتركة بين أهل المخيم الواحد، بدأت تظهر أطر للتنسيق والاجتماعات في المخيمات. فتشكلت في كل مخيم لجان أهلية تتبنى مطالبه، وتضم أعيان القرى، وتتولى صلة المخيم بالأونروا وبالسلطات اللبنانية. ويورد أحمد حسين اليماني أخبارا وشهادات عن ذلك في مذكراته بعنوان "تجربتي مع الأيام" بأجزائها الخمسة (دار كنعان). أدى ذلك إلى بداية نشوء عصبية واسعة تشمل المخيم، وأقرب إلى أن تكون "مخيمية"، وتنافس العصبيات الصغرى العائلية القروية وذات البعد السياسي والأيديولوجي.

أما على صعيد الحضور الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي الفلسطيني في تلك الحقبة، فيمكن ضرب بعض الأمثلة القصوى: يوسف بيدس (مؤسس بنك انترا)، حسيب الصباغ وسعيد خوري (مؤسسا شركة CCC)، رفعت النمر (مؤسس بنك بيروت للتجارة)، إضافة إلى العشرات من أساتذة الجامعات والمئات من الرياضيين.

وتطور عمل حركة القوميين العرب وحزب البعث في لبنان والمخيمات الفلسطينية في تلك الحقبة، مع تراجع حضور حزب التحرير (الإسلامي) والحزب السوري القومي الاجتماعي نتيجة وقوفهما ضد الموجة الناصرية الجارفة. أما حركة "فتح" فبلغ عدد أعضائها 80 في لبنان أوائل سنة 1966، حسب يزيد صايغ (الكفاح المسلح والبحث عن الدولة).

لا بد من ملاحظة مهمة في هذا السياق: كانت المخيمات الفلسطينية تتأثر بقوة بالعالم الاجتماعي والسياسي خارجها، أكثر بما لا يقاس من تأثير المخيمات بمحيطها اللبناني الخارجي. وربما بسبب المراقبة الأمنية القائمة في المخيمات. وبسسب إقامة الطبقة الوسطى الفلسطينية المحركة للعمل السياسي خارج المخيمات. وكانت النوادي اللبنانية القومية العربية مقصد أبناء المخيمات: النادي الثقافي العربي في بيروت وطرابلس، نادي التضامن في صور، نادي الجهاد في صيدا، نادي التعاون الرياضي في حارة صيدا، ونادي متخرجي المقاصد في بيروت. 

عاصفة الكفاح المسلح

لكن عاصفة هزيمة 1967 وهبوب عاصفة العمل الفدائي الفلسطيني التي تلت الهزيمة، غيرتا هذه المعادلة وقلبتاها رأسا على عقب: بدأ فتيان وطلاب لبنانيون يتدربون على السلاح في المخيمات، مدفوعين بموجة الكفاح المسلح. ودفعت "معركة الكرامة" في الضفة الغربية سنة 1968 ألوف الفلسطينيين في لبنان وكثرة من اللبنانيين إلى الانخراط في فصائل الثورة الفلسطينية، بعدما سقط خليل عز الدين الجمل شهيدا لبنانيا أول في صفوف الثورة الفلسطينية.

سرعان ما صار الفلسطينيون وثورتهم المسلحة جزءا من الانقسام الأهلي والسياسي اللبناني، ومؤثرين فيه بقوة. وجاء اتفاق القاهرة (1969) ليؤكد حيثية القوة الفلسطينية الجديدة المسلحة في لبنان. فرحل الأمن اللبناني تماما حول المخيمات التي توسعت إلى خارجها للمرة الأولى منذ النكبة. وشُرّع العمل الفدائي الفلسطيني في لبنان. وجرت محاولات رسمية للتفاهم ومنع الانفجار العسكري اللبناني-الفلسطيني. وظهرت شرائح لبنانية طائفية وطبقية ناقمة على السلاح الفلسطيني وعلى ما اعتُبر تدخلا فلسطينيا في المعادلة اللبنانية.

وكان أول الحوادث الكبرى المشهودة عام 1969: إطلاق مسلحين من أهالي بلدة الكحالة المسيحية النار على موكب تشييع فدائيين فلسطينيين تنقل جثامينهم إلى سوريا. وقتل في تلك الحادثة 14 فلسطينيا. وهذا ما أدى إلى هجوم مسلحين فلسطينيين من مخيم برج البراجنة على بلدة حارة حريك المجاورة وسقوط قتلى منهم. وكانت مثل هذه الحوادث مقدمة للحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975.

هكذا أخذت تنحسر العلاقة اللبنانية-الفلسطينية الاجتماعية التي كانت متشعبة في مؤسسات تعليمية وتجارية ورياضية واجتماعية، لتتحول إلى علاقات سياسية وأمنية بالمنظمات العسكرية الفلسطينية الناشطة والمسيطرة على المخيمات وجوارها. وصار يُنظر إلى المخيم بوصفه بؤرة أمنية. وتحولت منطقة الفاكهاني القريبة من مخيم شاتيلا عاصمة الثورة الفلسطينية ومقر قياداتها. وبعد طرد الفدائيين من الأردن سنة 1970، لم يبق لهم سوى لبنان ومخيماته ملجأ. وقد عبّر ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان شفيق الحوت عن قسرية ذلك الخيار بقوله: "لقد حطت الثورة في لبنان لأنه كان حديقة من غير سياج". وفي المحصّلة صار للفلسطيني، إضافة إلى الهوية الوطنية الفلسطينية ثلاث هويات فرعية: القروية والمخيمية والفصائلية.

وفي بداية السبعينات بدأت مغادرة كثرة من المتعلمين والمثقفين الفلسطينيين المخيمات. وهم أولئك الذين لم ينخرطوا مباشرة وعمليا وميدانيا في الكفاح المسلح. فأقام شطر من هؤلاء خارج المخيمات، وهاجر شطر آخر كبير إلى  خارج لبنان، إما بحثا عن ظروف عمل أفضل في الخارج (خاصة في دول الخليج) وإما اعتراضا على إدارة العمل المسلح.

ساهمت هذه الهجرة من المخيمات في تكريس المحلية والبلدية الفلسطينية فيها، وأضعفت التواصل غير المسلح بين الفلسطينيين واللبنانيين. ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، استقطبت الفصائل الفلسطينية ألوف الفلسطينيين واللبنانيين من سوق العمل في لبنان. صحيح أنهم كانوا عمالا، لكنهم فقدوا دورهم الإنتاجي الحقيقي في الاقتصاد اللبناني، وتقلّص دورهم التواصلي المهم مع المجتمع اللبناني. ففي عام 1980 مثلا، كان لـ"فتح" 15000 مقاتل مسجلين على جدول الرواتب بمن فيهم الإداريون، إضافة إلى 25000 عنصر ميليشيا. هذا عدا العاملين في باقي الفصائل الفلسطينية ومؤسسة "صامد".          

المخيم القلعة

انشغل الفلسطينيون منذ العام 1970 بكيفية تحصين المخيمات، وتشكيل اللجان الشعبية في كل مخيم، وتنظيم العلاقة مع الجوار. أما أهالي مخيمات الجنوب فأضيفت إلى همومهم اليومية كيفية الحماية من القصف الإسرائيلي الذي صار متوقعا في أي لحظة بدءا من العام 1974. وهو العام الذي أُزيل فيه مخيم النبطية في الجنوب نتيجة هذا القصف. أما عام 1976 فشهد إزالة مخيمي جسر الباشا وتل الزعتر (شرق بيروت المسيحية) واقعة دموية خلال الحروب الأهلية في لبنان.

وتعزّزت بين الفلسطينيين فكرة "المخيم القلعة". وجاءت المواجهات خلال اجتياح عام 1982 الإسرائيلي، وبعده في حرب المخيمات التي حاصرتها حركة "أمل" الشيعية في الثمانينات، لتقوي هذه الفكرة وتكرّسها أكثر فأكثر.

وتجذرت حرب المخيمات في الذاكرة الجماعية الفلسطينية. وارتدّ الفلسطينيون بقوة وانكفأوا نحو مخيماتهم. ونعلم أن قانون العمل اللبناني يمنعهم من ممارسة عشرات المهن. وهذا جعل شبكة علاقاتهم شبه محصورة داخل مخيماتهم. وأدى إلى توسع تيارات هجرتهم إلى خارج لبنان. وبعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، فشل تنظيم علاقة المخيمات بخارجها، على الرغم من تشكيل لجان كثيرة لتحقيق ذلك. والعوائق الإقليمية (النظام السوري المسيطر على لبنان)، أبقت الملف الفلسطيني قابلا للتفجير والاستخدام.

ومع تشديد الوجود العسكري اللبناني حول المخيمات بدءا من العام 1997، ومنع إدخال مواد البناء إلى عدد كبير منها، انكمش الفلسطينيون وانزووا في مخيماتهم وعلى هامش المشهد اللبناني. وأصبح المخيم عالم بقايا الفلسسطينيين، حتى إن عبارة "بحبك قد المخيم" أصبحت شائعة بين المحبين الفلسطينيين.