عالمة الآثار مونيكا حنا: مصر ثقافة وليست عرقاhttps://www.majalla.com/node/291181/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D8%AB%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D9%88%D9%86%D9%8A%D9%83%D8%A7-%D8%AD%D9%86%D8%A7-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D8%B9%D8%B1%D9%82%D8%A7
القاهرة: لقبتها منظمة اليونسكو بـ "سيدة الآثار" بعدما ساهمت في إنقاذ أثار "متحف ملوي" بمحافظة المنيا جنوب مصر من نهب عصابات الآثار في حادثة شهيرة عام 2013. إنها د. مونيكا حنا مؤسسة أول كلية لدراسة التراث الحضاري المصري بمدينة أسوان جنوب مصر عام 2018، وهي أصغر من يتولى منصب عميد لكلية آثار عن عمر 35 عاما. شغفها بالتاريخ وإحساسها بمسؤولية الحفاظ عليه يجعلانها تصرّ على تأكيد الهوية المصرية، حتى في ملابسها، خاصة في زياراتها للمحافل العلمية والثقافية، وهو ما فعلته في محاضرتها الأخيرة بجامعة أوكسفورد العريقة، في 9 مارس/ آذار الماضي، والتي حملت عنوان "ردّ المعرفة: حجر رشيد وتراث مصر المبعثر".
تقول د. حنا: "أرى أنه من المهم أن يظل التراث في الواجهة، لذلك أرتدي ملابس من ألوان التراث المصري الغنية مثل ’الجرجار النوبي’، و’الجلابية البدوي’، والفستان المنياوي والسيوي، وهي إحدى طرق إحياء التراث والحفاظ عليه".
كل جهة لديها أجندة وبسبب تغريبنا المتعمّد والذي نتج عنه إهمالنا لتراثنا من بعد 1952 لم تعد لدينا سردية مصرية عن تاريخنا، فهناك شعور بعدم الثقة في تاريخنا وبأن أي جهة يمكنها الزعم حتى بأنها بنت الأهرامات
كليوباترا
علقت د. مونيكا حنا في منشورات لها على التواصل الاجتماعي قبل فترة، على الجدل المثار حول الفيلم الوثائقي "كليوباترا" الذي تعرضه "نتفليكس"، والذي يصور الملكة البطلمية على أنها من العرق الإفريقي. تتساءل د. حنا في هذا السياق: "ما لون بشرة المصريين القدماء؟ الحقيقة أن طرح هذا السؤال خاطئ، لأن من يرى فنون مصر القديمة سيعرف أن المصريين القدماء كانوا من الألوان كافة، ولدينا مثالان بارزان هما أحمس نفرتاري زوجة الملك أحمس قاهر الهكسوس، ومريت أمون ابنة الملك رمسيس الثاني، واللتان لا ينظر إليهما انطلاقا من لون بشرتهما، بل من خلال الثقافة والحضارة واللغة. ذلك أن الهوية المصرية هي هوية ثقافية وليست عرقية".
تجيب: "الهوية المصرية هوية مركّبة متكوّنة من طبقات تاريخية عدة شكلت الثقافة المصرية الحالية. هويتنا تتجسّد في عاداتنا وتقاليدنا المصرية الأصيلة، كما في لهجتنا المختلفة عن اللهجات العربية الأخرى. وكما يؤكد أحمد عبد الحميد يوسف في كتابه 'من شفاه الفرعون' فنحو 30 بالمئة من لهجتنا الحالية تعود جذوره إلى المصرية القديمة. أما عن مسألة كليوباترا والمركزية الإفريقية أو الأوروبية، فبالطبع كل جهة لديها أجندة وبسبب تغريبنا المتعمّد والذي نتج عنه إهمالنا لتراثنا من بعد 1952 لم تعد لدينا سردية مصرية عن تاريخنا، فهناك شعور بعدم الثقة في تاريخنا وبأن أي جهة يمكنها الزعم حتى بأنها بنت الأهرامات. الحقيقة أن الخلاف الموجود والسجال المبني على نزعات عرقية ليسا جديدين، فمنذ ثورة 1919 كانت هناك حركات مشابهة في التاريخ المصري الحديث، وكان يقابلها للأسف رد فعل من تيارات الإسلام السياسي، ولو ناقشنا الموضوع بالعقل وليس بالنزعات اليمينية أو اليسارية المتطرفة عن الهوية، فسنجد أن المصري مدرك تماما لهويته، وهذا سبب إصراره، مثلا، على الاحتفال بعيد 'شم النسيم'، رغم أن هذا العيد لم يكن موجودا في مصر القديمة، كانت هناك أعياد كثيرة مثل عيد الحصاد وكان المصري القديم يأكل في الأعياد السمك المملح، والذي كنا بالمناسبة نصدّره، بل وضع الإمبراطور دقلديانوس ضرائب عليه. هذا تفسيري البسيط لرؤية المصري لهويته بغض النظر عن المنظّرين حول ما إذا كان المصري القديم فاتح البشرة أم داكنها.
نحن لا نبحث عن الذهب، لأن المعرفة أهم من المعدن النفيس ولو استطعنا شرح هذه الفكرة للناس، أعتقد أن جزءا كبيرا من هوس تجارة الآثار سوف يقلّ، لآن نظرة الناس إلى هذا الإرث ستتغير
ذهب المعرفة
يزعج د. حنا أن ينظّر البعض لأهمية البحث في تاريخ مصر القديمة على أنه عملية تنقيب عن الذهب: "نحن لا نبحث عن الذهب، لأن المعرفة أهم من المعدن النفيس ولو استطعنا شرح هذه الفكرة للناس، أعتقد أن جزءا كبيرا من هوس تجارة الآثار سوف يقلّ، لآن نظرة الناس إلى هذا الإرث ستتغير".
نشأت د. مونيكا حنا في أسرة مستنيرة شجعتها على الفضول المعرفي منذ الطفولة. تروي عن بداية شغفها بعلم الآثار: "خلال رحلة مدرسية إلى المتحف المصري هربت من المشرفين وذهبت ناحية معمل التحنيط، الذي لم يعد موجودا مع الأسف، رأيت د. نصري إسكندر خلال قيامه بترميم أصابع قدم الملك تحتمس الثالث فرآني أختلس النظر من بعيد، وأشار إليّ بأن أقترب لأشاهده عن كثب وهو يعمل. وهكذا، وجدت نفسي وجها لوجه في حضرة مومياء الملك".
ورغم هذا الشغف، فإنها لم تدرس في البداية هذا الحقل، "بل التحقت بكلية الهندسة بالجامعة الأميركية بالقاهرة، وبسبب قرب الجامعة من المتحف المصري بميدان التحرير، دأبت على الذهاب يوميا لمساعدة د. نصري إسكندر في معمل التحنيط، فكان يعطيني فوطة صفراء أنظف بها أو اكتب له بعض المعلومات على الكمبيوتر أو أقوم بالترجمة. ذات يوم رأتني أمي خلال كتابتي بحثا عن علم المصريات فنصحتني بأن أغيّر مساري التعليمي وقالت لي إن مصر بها العديد من المهندسين الأكفاء، لكننا بحاجة إلى علماء مصريات، فتركت دراسة الهندسة وبدأت في دراسة علم المصريات وما زلت أنهل من فيض هذا العلم حتى الآن".
استراتيجية وطنية
عن أكبر التحديات التي تواجه د. حنا في الحفاظ على التراث الثقافي لمصر، تقول: "المشكلة الكبرى هي غياب استراتيجية حقيقية في الأجندة الوطنية المصرية للحفاظ على التراث الثقافي وصيانته وإتاحته، والسبب في ذلك هو أن علم المصريات هو علم استعماري انشأه الغرب وسعى كل علمائه لإبقاء العلماء المصريين بعيدا عن مجاله حتى عام 1952، ومع ذلك لم يتحرّر علم المصريات من الاستعمار الثقافي الغربي بشكل كامل إلى يومنا هذا، التحدي الحقيقي أن نعمل على خلق استراتيجية لمدة عشرين عاما يشارك في وضعها كلّ الجهات المعنية والعلمية". وانتقدت عالمة الآثار المنظومة الحالية "التي يقوم كلّ من يأتي على رأسها بفتح مشروع جديد ولا يكمل المشروعات السابقة، لذلك لا نتقدم في هذا الملف، بل نرجع للخلف".
أما عن التعاون الدولي في هذا المجال لتحقيق أهداف مشتركة، فتقول: "كما قلت سابقا، علم المصريات هو علم غربي استعماري نشأ وتطور بعد الحملة الفرنسية على مصر وفك رموز حجر رشيد، وهذا السبب في أن دوائر الإنتاج المعرفي حول مصر القديمة ما زالت في أيدي الغرب، ورغم اننا نبدو المتحكمين في مصلحة الآثار منذ سبعين عاما إلا أن إنتاجنا المعرفي قليل".
وتنتقد د. حنا عدم وجود كتب باللغة العربية عن مصر القديمة، "إذ أن معظمها مترجم عن لغات أخرى أما الإنتاج المصري الأصيل فنادر وبعضه ضعيف جدا في مستواه العلمي". وتضيف أن العديد من زملائها المتخصصين حول العالم يرفضون فكرة استعادة الآثار المصرية من المتاحف الغربية، ليس فقط لأنه يحقق لتلك المتاحف مردودا اقتصاديا، بل لكي يظلوا متحكمين في قدرتنا على الإنتاج المعرفي عن التاريخ المصري القديم، إلا أن بعض المؤمنين بالقضية تبنوها ويساهمون في الدعوة لاستعادة القطع الأثرية وتمكين العلماء المصريين من إنتاج علم معرفي عن حضارتهم، هؤلاء فقط هم شركائي في العمل لتغيير الواقع الحالي من أجل الحفاظ على التراث الحضاري المصري".
علم المصريات هو علم استعماري انشأه الغرب وسعى كلّ علمائه لإبقاء العلماء المصريين بعيدا عن مجاله، ولم يتحرّر علم المصريات من الاستعمار الثقافي الغربي بشكل كامل إلى يومنا هذا
نهب الآثار
بدأت د. مونيكا حنا العمل على ملف الآثار المنهوبة بعد ثورة يناير/ كانون الأول 2011، وتؤكد أنه "يصعب تقدير الحجم الحقيقي للآثار المصرية المنهوبة، لكن يمكن القول إنها مئات الآلاف من القطع الأثرية". وعن اهتمامها بهذا الموضوع، تضيف: "لم يكن هذا الموضوع محل اهتمامي منذ البداية، لكني وجدت نفسي أساعد بعض الموظفين الخائفين من التنكيل بهم في حالة إثارة الموضوع، وكذلك كان الأجانب العاملون في المجال خائفين من إنهاء تصاريح الحفر الخاصة بهم لأن بعض العاملين في القطاع كانوا مستفيدين من حالة الفوضى الأمنية التي حدثت وقتها. حينها عرفت لماذا تتم سرقة الآثار وكيف أن هناك سوقا سوداء وسوقا 'قانونية'، وإن لم تكن أخلاقية، والسبب أن الآثار المصرية في المتاحف التي نُهبت منذ الحملة الفرنسية هي مصدر للسلطة الثقافية على البلاد الأخرى، حجر رشيد ليس مجرد حجر، بل هو رمز للاستعمار البريطاني الذي لم يستول على جزء من تراث مصر فحسب، بل حاول أن يثبت للعالم أنه انتصر علينا ثقافيا بعد تعذّر الانتصار العسكري، والمفاجأة أن هذه الفكرة لم تمت بل ما زالت قائمة، ليس فقط في الدوائر الأجنبية بل حتى بين بعض المصريين الذين يظنون أننا كنا سنظل في الجاهلية من غير التنوير الفرنسي".
وتضيف: "من المحزن أن عصابات النهب ما زالت تستخدم الأطفال لاستخراج الآثار، لأن أجسادهم الهزيلة تسمح لهم بالنزول إلى الحفر، وفي عام 2015 توفي أكثر من خمسة وعشرين طفلا جراء هذه الممارسات، وكان جيش نابليون أول من استغل الأطفال المصريين أثناء الحملة الفرنسية على مصر للغرض نفسه، وألقيت جثثهم في النيل".
حجر رشيد
تحظى د. مونيكا حنا بحضور مؤثر على منصات التواصل الاجتماعي، وذلك انطلاقا من إيمانها بأن "أثار مصر ليست فقط للخواجات والنخبة، بل هي لجميع المصريين"، ولذلك نجحت في استغلال تأثيرها في شن حملة لاستعادة حجر رشيد بالتزامن مع الاحتفال بمرور 200 عام على اكتشافه. وعن الخطوات التي قامت وتقوم بها في هذا السياق، تقول: "لدينا أكثر من طريق، أولها البحث العلمي، فمن خلال البحث اكتشفنا أن حجر رشيد خرج من مصر بموجب اتفاقية أبو قير بين البريطانيين والفرنسيين، وذلك بعد انتصار الطرف الأول على الثاني، وقد أقرّت تلك الاتفاقية بأن هذا الحجر، بالإضافة إلى الست عشرة قطعة أثرية التي أخذت معه، يجب تسليمها من قبل الفرنسيين إلى الجيش المشترك (العثماني والبريطاني)، والعثمانيون لم يتنازلوا عن الآثار لبريطانيا، إذ لم نجد أية وثيقة تدل على هذا التنازل في دار الوثائق المصرية بما فيها وثائق الحملة الفرنسية أو في الأرشيف البريطاني أو الأرشيف التركي، لذلك لا تملك بريطانيا أي سند ملكية للحجر. بالإضافة إلى أن بريطانيا وفرنسا بينهما اتفاقية تحظر على أي من البلدين الاستيلاء على الممتلكات الثقافية غنيمة حرب، وهذا ما نجح فيه الشعب الإيطالي إذ تمكن من استعادة الآثار التي سرقها نابليون.
أما الطريق الآخر فهو "الطريق الأخلاقي" أي أن نظل نطرح السؤال: كيف لمتحف كبير مثل المتحف البريطاني أن يدرج بين مقتنياته آثارا مسروقة كغنيمة حرب، فيجب عليهم أن يعتذروا ليس فقط بردّ القطع ولكن بسياسات مختلفة في القطاع الثقافي. أما الطريق الأخير، فهو أننا خاطبنا البرلمان البريطاني من أجل تعديل قانون يسمح بإعادة الحجر".