من منا لا يتوق إلى الحب، أهم مفاتيح النفس البشرية وألغازها، الذي شكّل جزءا لا يتجزأ من شواغل عرّاب التحليل النفسي الحديث سيغموند فرويد، لما يحظى به من أهمية حاسمة في تشكيل وعي الفرد وتجربته؟ وكان فرويد أجاب حين سئل عن صفات الشخص المتمتع بصحة نفسية جيدة، بأنه الشخص "القادر على الحب والعمل".
"الحبُ فى الأرض بعضٌ من تَخَيُّلِنا/ إن لم نجده عليها لاخترعناهُ"، يقول الشاعر نزار قباني. أما صاحب "مدام بوفاري" الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير، فلم يهمل الحب في خضم دفاعه عن روايته "التربية العاطفية": "أردت أن أكتب رواية أخلاقية عن جيلي، أو بشكل أدق، رواية عن مشاعرهم. إنه كتاب عن الحب، عن الشغف، لكنه شغف، مثل الذي نعيشه اليوم، شغف معطَّل".
تاريخ طويل
تاريخ الحب طويل، فمنذ القرن الثالث الميلادي وموضوع الحب، سواء العذري أو الحسي، ودوافعه وبواعثه مادة إنسانية تحفز أقلام الكتاب والفلاسفة والباحثين متخذين تصورات ثقافية متباينة عنه. ففي حين كان الفيلسوف الهندوسي فاتسايانا مؤلف كتاب "كاماسوترا"، ينصح الرجال والنساء بالزواج من أجل ازدهار مشاعر الحب، كافأ اليونانيون المحافظون الأزواج الراغبين في الإنجاب. التاريخ الإسلامي أيضا زاخر بحكايا الحب، بما في ذلك الحسي منه، مثلما نرى في كثير من الأدبيات، وعلى وجه الخصوص في "ألف ليلة وليلة". وفي المعابد السومرية والبابلية كانت مكانة بائعات الهوى توازي مكانة القساوسة والكاهنات باعتبارهن مقدسات ولديهن رسالة. على النقيض من ذلك، كان العبرانيون القدماء يرجمونهن. وبينما لم يفصل قدماء الصين بين الحب والمتعة الجسدية بوصفهما من أكبر أفراح الحياة، إلا أن مواقفهم تبدلت تدريجيا وبدأوا بقمع كل ما يتعلق بالجنس، وطغت في ذلك الوقت عمليات حرق الأعمال الفنية والأدبية التي اعتُبرت مثيرة للغرائز، وحُصر دور المرأة في الإنجاب. وعلى الرغم من أنه كان من المقبول أن يحظى الزوج بمحظية في بعض الأحيان، كانت تعامل كخادمة تقوم بالأعمال الوضيعة وتُشبع احتياجات الرجل الجنسية، ولم تكن تتمتع بمكانة عالية إلا إذا كان هناك تفاعل عاطفي وجسدي قوي معه.
في جمهورية الصين الشعبية ذات النظام الشيوعي وضعت ضوابط صارمة على الحب الرومانسي، وذلك في سياق تأكيد أهمية الجماعة وقيمها على الفرد وغرائزه، إلى درجة أن الحب وصف في كتيب حزبي رسمي بأنه "نشاط نفسي جسدي يستهلك الطاقة ويضيع الوقت" (برنارد مورستين، 1974). إلا أن الحب وتصوراته في الصين تحررا مع الوقت بسبب العولمة وانتشار السينما العالمية، وشبكة الإنترنت، والسفر حول العالم مع بداية تسعينات القرن الماضي، فلم يعد من المحرمات.
تعدّ أوروبا مثالا آخر على تنوع المواقف من الحب من منظور تاريخي. ففي العصور الوسطى في إنكلترا كان للمسيحية تأثير كبير حول مفهوم الحب وكان يُفهم أنه تضحية بالنفس، مما يعني ضمنا اعتبار الحب علاقة متناغمة ورحيمة وحنونة وخيّرة بين الناس بدلا من المشاعر الرومانسية والانجذاب الجنسي. واستُخدمت كلمة الصداقة كمرادف لغوي للحب. مع القرن الثالث عشر اكتسب الحب معنى العاطفة والجاذبية الجنسية بالإضافة إلى معنى اللطف تجاه الشخص، والولع والحنان والمودة والصداقة وكذلك عاطفة العطاء. وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر (عصر شكسبير)، وُصف الحب بأنه شغف مهلك، أو مرض عضال، أو قوة جبارة يستحيل مقاومتها. وفي العصر الفيكتوري، كان الحب الرومانسي يعتبر شعورا روحيا حساسا - نقيض الشهوة الحيوانية الخالصة وتطور مفهوم الحب الخالص في أجزاء كثيرة من غرب أوروبا وشمالها.
على الرغم من التباين في وجهات النظر، إلا أن دراسة تاريخية قام بها وليام جانكوفياك وإدوارد فيشر عام 1992 حول الحب الرومانسي في 166 ثقافة حول العالم، وجدت أن مفهوم الحب الرومانسي قائم في 147 من تلك الثقافات أي 88.5 في المئة، مما يعني أن الحب الرومانسي يكاد يكون عالميا، ومع ذلك لا يمكننا استنتاج أن كل شخص يقع في الحب بالقدر نفسه والطريقة ذاتها، بسبب تأثير الثقافة العميق على تعريف الناس للحب الرومانسي وعلى الطريقة التي يفكرون فيها ويشعرون بها ويسلكونها. فالوقوع في الحب يعتمد بشكل كبير على التنظيم الاجتماعي للثقافة، والمجتمعات التي ترفض الحب الرومانسي، على سبيل المثل، يكون الوقوع في الحب فيها أقل.
بما أن الحب كما يرى عالم النفس الألماني إريك فروم، كبقية المشاعر، محكوم بالثقافة والأفكار والشخصية، وجميعها مشروطة بالنظام الاقتصادي الاجتماعي، فإننا نجد اختلافا وتباينا في طبيعته وطرق التعبير عنه
تؤثر القيم الثقافية والسلوكيات التقليدية على تجربة الحب وتحولها من مجرد انجذاب إلى علاقة متكاملة الأركان. ففي مجتمعات مثل الصين والهند وإندونيسيا وإيران وتايوان والمجتمعات العربية، يطالب الرجال بضرورة "العفة"، بينما موضوع العفة غير مهم في فنلندا وفرنسا والنروج وهولندا والسويد وألمانيا الغربية، مما يعني هيمنة المنظور الثقافي في فهم اختيار الشريك. ليس هذا فحسب، فالثقافة تؤثر على كيفية ربط الناس بين الحب العاطفي والرغبة الجنسية، إذ يتم تعليم الرجال الفصل بين الجنس والحب، في حين يتعلم العديد من النساء الربط بين الاثنين. هذه الازدواجية في تعليم مفاهيم الحب تتسبّب بالكثير من التوتر في فهم العلاقة العاطفية وطبيعة الحب.
كيف يمكن للثقافات الجمعية والفردية أن تؤثر على التجربة الذاتية الرومانسية؟
في الثقافات الفردية، يُسمح للشباب بمساحات من الخصوصية، أما في الثقافات الجمعية، فتأتي الجماعة أولا. فهل خبرة الحب في هذا المعنى أكبر في الثقافات الفردية منها في الثقافات الجمعية التقليدية ذات الروابط الأسرية القوية الممتدة؟
تصعب الإجابة بنعم أو لا. نعم، في الثقافات الفردية، يُنظَر إلى الزواج القائم على الحب على أنه زواج مثالي، مع ذلك قد يتعارض دافع الشخص إلى الاستقلالية مع حاجته إلى شريك رومانسي. وظهر أن الأشخاص الأكثر فردية أقل ميلا إلى الوقوع في الحب. كما أنهم يميلون إلى علاقات الحب السطحية الأقل حميمية والأقل عمقا.
كما تؤدي الفردية والجمعية إلى اختلافات في كيفية تصوّر الناس لأنفسهم، وهذا له تأثير كبير على ماذا يريدون من الحب وكيف يحبون. من وجهة نظر فردية، كل شخص هو كيان منفصل؛ من وجهة نظر جمعية، يعتبر الفرد جزءا من علاقات ممتدة. عندما ينظر المرء إلى نفسه كفرد له حدود ومنفصل عن الآخرين، فإن المحبة تجاه شخص آخر هي فرصة لاختراق تلك الحدود والهروب من الشعور بالوحدة الناجم عن كونه فردا منفصلا. يصبح الحب الجسر الذي يربط الشخص بشخص آخر. هذا الارتباط، مع ذلك، يعني حرية الشخص. إذا كانت العلاقة لا تمنحه ما يتوقعه، فقد يختار التخلي عنها.
من منظور جمعي، يؤكد الناس أهمية الروابط باعتبار الفرد جزءا من العلاقات، لا يتوقع الناس أنه من الضروري تأكيد هذه الروابط شفهيا من طريق أن يسأل الشخص ما إذا كان شخص آخر يحبه أو من خلال إعلان حبه لشخص آخر، إنما يُعبّر عن حبه من خلال أفعاله أكثر من أقواله.
تظهر الاختلافات بين الثقافات أيضا في تجربة تطور الحب على مر السنين. فوجدت دراسة تتبعت تطور الزيجات على المدى الطويل في الولايات المتحدة مقابل اليابان، أن الزيجات في أميركا تبدأ بمستوى عالٍ نسبيا من الحميمية ويحاول الشريكان الحفاظ على العلاقة الحميمة مع الحفاظ على هوية منفصلة. من ناحية أخرى، تتميز الزيجات اليابانية في البداية بالعديد من الالتزامات التي تقع على عاتق الزوجين تجاه الآخرين في وسطهما الاجتماعي ثم تتطور العلاقة الحميمة تدريجيا مع "العشرة".
وبما أن الحب كما يرى عالم النفس الألماني إريك فروم، كبقية المشاعر، محكوم بالثقافة والأفكار والشخصية، وجميعها مشروطة بالنظام الاقتصادي الاجتماعي، نجد اختلافا وتباينا في طبيعته وطرق التعبير عنه.
فهل يحب شخص لاتيني بشغف أكبر من عاشق في الشمال الأوروبي الهادئ والمتحفظ؟ أم أنه فقط يعبر عن مشاعره بشكل مختلف؟ يمكن الناس التعبير عن حبهم صراحة أو ضمنا. فالثقافة الأميركية، على سبيل المثل، تؤكد أهمية التعبير اللفظي عن الحب للآخر، لذلك يقول الأميركيون مرات عديدة بعضهم لبعض "أنا أحبك"، وهي بالنسبة لهم كلمات نموذجية وتستخدم يوميا.
في المقابل يندر في المجتمعات العربية التعبير عن الحب لفظيا إلا في المناسبات الخاصة، ويختزل الحب غالبا في الأفعال وبشكل غير مباشر من خلال مشاركة الضحك أو الاستماع إلى مشاكل الآخرين بعضهم لبعض، أو من خلال مواجهة الصعوبات والوفاء بالوعود.
في الثقافات الفردية، يُنظر إلى الزواج القائم على الحب على أنه زواج مثالي، ومع ذلك قد يتعارض دافع الشخص للاستقلالية مع حاجته إلى شريك رومانسي. وظهر أن الأشخاص الأكثر فردية أقل ميلا إلى الوقوع في الحب. كما أنهم يميلون إلى علاقات الحب السطحية الأقل حميمية والأقل عمقا
خلاصة الأمر أن الحب طاقة تبث الحياة في جسد الثقافات قبل الأفراد، وهو خط دفاع ضد تمدد الصراعات والحروب. المفارقة أنه يسهل علينا في مجتمعاتنا العربية الاعتراف بالغضب والكراهية ضد شخص ما، في حين يظل الاعتراف بالحب مقيدا بالأغلال. فالحب تاج على رؤوس شعراء الجاهلية وما بعدها في عصور الإسلام، فلماذا بات موضوعا بالغ الحساسية في المجتمعات الشرقية الراهنة؟ ولماذا التحفظ والخوف من هذا الشعور النبيل، الذي لا يدل على الضعف بقدر ما يدل على القوة والتوازن؟ إذ، وكما قال الشاعر إيليا أبو ماضي:
إن نفسا لم يشرق الحب فيها
هي نفس لا تدري ما معناها…
أنا بالحب قد وصلت إلى نفسي
وبالحب قد عرفت اللهَ.