أصدر النظام السوري مرسوما تشريعيا الشهر الماضي يقضي بتقديم منحة مالية لمرة واحدة بقيمة 150 ألف ليرة سورية لموظفي الحكومة، سوى أن هذا الخَبر لم يلق ترحيبا حارا من موظفي الخدمة المدنية، فقد رأوا فيه قضاء فعليا على أي فرص لزيادة الرواتب هذا العام.
وكانت عدة تقارير قد أوردت أن الآلاف من موظفي الخدمة المدنية السوريين قد استقالوا من وظائفهم خلال العام الماضي تعبيرا عن غضبهم من رواتبهم الضئيلة التي لا تكاد تغطي أكثر من كلفة تنقلهم. ويستخدم نظام الأسد سياسة الجزرة والعصا لضمان استمرار عمل المؤسسات العامة، نظرا لافتقاره إلى الوسائل المالية لتلبية مطالبهم.
فبالإضافة إلى المكافآت التي تمنح لمرة واحدة، تعقّد الحكومة إجراءات متعددة لجعل عملية الاستقالة صعبة ومكلفة. ويبدو أن هذه التكتيكات استطاعت أن توقف في الوقت الحالي سيل الاستقالات. ولكن من غير المرجح أن يستمر نجاح تلك التكتيكات ما لم تتماشَ الرواتب مع ارتفاع تكاليف المعيشة في سوريا.
ذات يوم كان هناك طلب شديد على الوظائف الحكومية في سوريا. لقد وفرت تلك الوظائف الأمن الوظيفي للناس (حيث كان فصل الموظفين أمرا صعبا للغاية)، وكانت الترقيات وزيادة الرواتب مضمونة. ونادرا ما كان يتعرض موظفو الخدمة المدنية– كالمعلمين، والأطباء، وأفراد القوات المسلحة– للإجهاد، وكانوا يعملون بضع ساعات فقط في اليوم ويقضون عطلات رسمية وفيرة. وكان الجانب السلبي الرئيس يتمثل في الأجر، الذي كان يعادل نحو 400 دولار شهريا لمعظم الوظائف. لكن حتى هذا الأجر كان كافيا لتغطية نفقاتهم.
استقال الآلاف من موظفي الخدمة المدنية السوريين خلال العام الماضي تعبيرا عن غضبهم من رواتبهم الضئيلة التي لا تكاد تغطي أكثر من كلفة تنقلهم
أما الآن، فلا تتوفر أي من هذه المزايا لموظفي الخدمة المدنية، فلا يزيد متوسط الأجر الشهري لموظف حكومي حاليا عن 100 ألف ليرة سورية، أي ما يقارب 13 دولارا، بينما ارتفعت تكلفة المعيشة في سوريا إلى حدٍّ كبير، الأمر الذي أدى إلى ظهور فجوة غير مسبوقة بين الدخل والإنفاق.
ويتجاوز متوسط تكلفة المعيشة لأسرة سورية مكونة من خمسة أفراد 3.5 مليون ليرة سورية، أي أكثر من 35 ضعف متوسط الراتب الحكومي. وبالتالي، فليس من المستغرب أن يحاول كثير من موظفي الخدمة المدنية العثور على شيء أفضل، سواء داخل البلد أو خارجه.
ولا يصدر النظام السوري أرقاما موثوقة، فتتعذر لذلك معرفة عدد العاملين الذين تركوا وظائفهم في القطاع العام في سوريا. لكن التقارير الإعلامية تشير إلى أن المئات، إن لم يكن الآلاف، من موظفي الحكومة في مختلف المحافظات، بما في ذلك السويداء واللاذقية، قد استقالوا من وظائفهم خلال العام الماضي. ويُعتقد أن عدد العمال الذين لا تزال طلبات استقالاتهم معلقة، أو التي رفضت بالفعل، أعلى من ذلك العدد.
لقد ترك عشرات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية السورية مناصبهم على مدى العقد الماضي. ووفقا لتقرير نُشر في أبريل/نيسان 2021 صادر عن دائرة الهجرة الدنماركية، فقد رُفعت دعاوى أمام المحاكم السورية تقدر بنحو 138 ألف قضية تتعلق بعمال تركوا منصبا عاما دون سابق إنذار بين عامي 2011 و2017. ومن بين 50 ألف حكم صدر، فُصلت 38 ألف قضية لصالح الدولة و12 ألف قضية لصالح الموظف.
وتراوحت العقوبات بين الغرامات والاتهام بالإرهاب. وقال التقرير إن النظام السوري يعتبر ترك وظيفة في القطاع العام عملا سياسيا أو نشاطا مناهضا للحكومة.
ومع ذلك فالإجراءات العقابية ليست المسار الوحيد الذي يتبناه النظام؛ إذ رفع رئيس الوزراء حسين عرنوس، والذي اعترف بأن الرواتب أقل بكثير من تكاليف المعيشة، رواتبَ القطاع العام بنسبة 30 في المئة في ديسمبر/كانون الأول 2021. ومنذ ذلك الحين، وعد المسؤولون الحكوميون بزيادة إضافية بنسبة 25 في المئة، على الرغم من أن هذه الزيادة لم تتحقق بعد.
كما قدم النظام مكافآت لمرة واحدة لموظفي الحكومة، ومن ضمنها منحة قدرها 100 ألف ليرة قُدمت في أغسطس/آب وديسمبر/كانون الأول من العام الماضي. كما رفعت الحكومة عتبة الإعفاء الضريبي لموظفي الخدمة المدنية من 50 ألف ليرة إلى 92 ألف ليرة، الأمر الذي أدى فعليا إلى خفض عبء ضريبة الدخل.
النظام السوري يعتبر ترك وظيفة في القطاع العام عملا سياسيا أو نشاطا مناهضا للحكومة
لكن هذه الإجراءات اتسمت بالشحِّ والتأخر الشديد بالنسبة لكثير من الموظفين، وتواصلت الاستقالات. وكردٍّ على ذلك، أصدر النظام توجيها الشهر الماضي يقضي بأن الوزارات يجب أن تكون أكثر صرامة عند مراجعة طلبات الاستقالة، وبأنه لا يمكن الموافقة على الطلبِ إلا في حالة عدم حاجة الإدارة إلى الموظف. وحتى في هذه الحالة، يجب أن توافق الوكالة الوطنية للاستخبارات على قرارات منح الانفكاك.
نظرا لهذه الإجراءات البيروقراطية الإضافية، يتم تلقائيا رفض طلبات استقالةٍ لكثير من الموظفين. أولئك الذين لا ترفض طلباتهم يخضعون لاستجواب قوات الأمن، وهو أسلوب تخويف واضح يهدف إلى إبقاء الناس في وظائفهم. وكنتيجة لذلك، من المرجح أن يظل كثير من موظفي الخدمة المدنية في المناطق التي يسيطر عليها النظام في وظائفهم بدافع الخوف.
لكن الوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا يعني أنه من دون تدخل يتصف بقوة أكبر، ستستمر الفجوة بين الدخل ونفقات المعيشة في الاتساع. إنَّ سياسة النظام الحالية المتمثلة في تقديم زيادات ضئيلة في الرواتب ومنح مكافآت لمرة واحدة تُخفق في تحسين الروح المعنوية، ومن غير المرجح أن يشعر عمال القطاع العام بالرضا حتى يحصلوا على أجر مناسب للعيش.
وخلاف ذلك، سيأتي وقت لا يكون فيه لدى موظفي الخدمة المدنية من خيار سوى البحث عن عمل يغطي أكثر من مجرد كلفة الذهاب إلى المكتب.