كثير من النازحين قرروا البقاء في بلدان اللجوء، لكن مئات الآلاف لا يزالون يتطلعون للعودة إذا تحقق السلام، السؤال الآن عن ماهية ذلك السلام المنشود؟
السلام المنشود
قامت الجمهورية اليمنية عام 1990 على دستور يضمن المواطنة المتساوية وسيادة القانون والتمكين السياسي عبر التعددية الحزبية والانتخابات، وكان حداً معقولا من تلك القيم يمارس ويحترم من قبل السلطات المركزية رغم التجاوزات الجسيمة التي كانت النخب المهيمنة ترتكبها. إلا أن تركّز السلطة، والفساد الناتج عن ذلك، كانا يقودان اليمن نحو هاوية الفشل الاقتصادي وخطر تفكك الدولة، فجاءت الانتفاضة الشعبية في 2011 احتجاجا على تلك التجاوزات والمطالبة بالإصلاحات اللازمة لترسيخ حقوق المواطنة والحد من الفساد، وأدت إلى استقالة الرئيس علي عبد الله صالح ونقل السلطة وبدء مرحلة انتقالية عقد أثناءها "مؤتمر الحوار الوطني" الذي أقر إصلاحات جذرية كان أهمها اللامركزية العميقة التي كانت ستتيح للمجتمعات المحلية حق إدارة شؤونها بعيدا عن هيمنة المركز ونخبته المتهمة بالفساد.
إلا أن الانقسامات الحادة أفشلت المرحلة الانتقالية، وتمكن "الحوثيون" بالتحالف مع الرئيس الأسبق من السيطرة على العاصمة صنعاء، وفرضوا الإقامة الجبرية على الرئيس الانتقالي وحكومته، واستطاع الانقلابيون بسط سيطرتهم على معظم المحافظات، وبدأوا بجملة من الاستفزازات التي أدت إلى تدخل التحالف الذي تقوده السعودية.
وقد تبين أن الانقلابيين لن يلتزموا بالحد الأدنى من حقوق المواطنة وسيادة القانون وأعطوا مسؤوليهم سلطة تقديرية تمكنهم من مصادرة حرية أي مواطن وأملاكه وحقوقه دون أن يكون له ملجأ قانوني يعود إليه، أو كما قال رئيس المكتب السياسي الراحل في "انصار الله" صالح الصماد: "أصغر مسؤول في الحركة يمكنه أن يودع أي مواطن في السجن، وليس باستطاعة أكبر مسؤول في الحركة إطلاق ذلك المواطن".
خلقت تجاوزات الحوثيين بيئة طاردة، فحدثت موجة من النزوح والهجرة إلى الخارج كان على رأسها المهنيون ورجال الأعمال والقادة السياسيون والعسكريون والوجاهات الاجتماعية. وخلال السنوات الأخيرة عاد عدد قليل من النازحين الذين سلموا بالأمر الواقع، إلا أن الغالبية ما زالوا غير قابلين بالتسليم بسلطة الحوثيين المطلقة.
لا شك أن وقف الحرب سيمكن الكثير من العودة إلى بيوتهم، لكن العودة الجماعية لن تتم إلا بتوفر الحد المقبول من حقوق المواطنة وتوفر الضمانات القانونية ضد السلطة التعسفية لمسؤولي الدولة، ولن تتوفر تلك الضمانات إلا في إطار شراكة فعلية في السلطة.
الشراكة ممكنة؟
هل الشراكة ممكنة أم تبدو مستحيلة في ظل هيمنة الحوثيين على مؤسسات الدولة؟ أي حديث عن عودة الأطراف المناوئة للحوثيين إلى صنعاء للمشاركة في السلطة هو خيار صعب بحكم الأمر الواقع، إذ إن الجمهورية اليمنية منذ قامت لم تدِرْها المؤسسات الرسمية، بل كانت السلطة الحقيقية في مؤسسات موازية وشبكات موالاة خاضعة لرأس السلطة، بينما كانت المؤسسات الرسمية مجرد أدوات تنفيذية، وقد تبين لنا خلال الفترة الانتقالية أن السلطة لا تنتقل بتسليم رئاسة الجمهورية أو الحكومة كما تم في 2011، بل بالسيطرة على المفاصل الحقيقية للسلطة كما فعل الحوثيون على مدى سنوات توّجوها بقتل حليفهم الرئيس الراحل علي عبدالله صالح، حسب اعتقاد محللين.
لا يمكن ضمان المواطنة المتساوية بصيغة نظام الحوثي، ولا بصيغة نظام صالح. أما الشراكة التي شهدناها في الفترة الانتقالية فقد فشلت لأن السلطة التي تمركزت على مدى عقود بيد نخبة العاصمة ومارستها عبر شبكات الموالاة لم تكن تقبل القسمة لأنها ليست محددة بقانون، بل هي سلطة ظرفية تعتمد على مهارة صاحب السلطة، لذا لا نستطيع حتى تخيل الطريقة المناسبة للشراكة فيها.
إذن، الشرط الأساسي لبناء دولة سيادة القانون هو التخلص من التسلط الذي أسفرت عنه المركزية المفرطة، واعتماد اللامركزية العميقة التي تقوم على مبدأ أن كل الصلاحيات هي في الأصل للحكم المحلي في كل محافظة، يفوض بعضا منها للسلطة المركزية، حسب الحاجة. ولا يمكن استمرار اللامركزية السياسية والإدارية ما لم تصاحبهما لامركزية مالية، وتضمين الدستور بندا يقر بحق المحافظات في مواردها المحلية، على أن تشارك في تمويل الحكومة المركزية بنسبة معينة. كما لا يمكن للمحافظات الاحتفاظ بهذه الحقوق إلا إذا كان لديها من القوة الخشنة ما يردع السلطة المركزية عن السعي إلى إعادة تركيز السلطة مرة أخرى، وأعني بهذا أن تكون لكل محافظة قوتها الأمنية الرادعة.
لا تزال بعض النخب اليمنية ترفض هذه "الوصفة"، وترى أن استعادة الدولة لا تكون إلا بتركيز السلطة. وهي بهذا تراهن على "المستبد العادل" الذي سيأتي على حصان أبيض، وتتجاهل أن معظم المستبدين كانوا من عينة الرؤساء: علي عبدالله صالح، وصدام حسين، ومعمر القذافي، وبشار الأسد، وأمثالهم، وأن السلطة المطلقة شر مطلق. ولا تدرك تلك النخب أن فشل الدولة اليمنية كان بسبب غياب الضوابط التي تعقلن السلطة المركزية وأهمها التوازنات المستقرة بين السلطات الثلاث، وكذلك بين الدولة والشعب، وبين المركز والأطراف. كما أن عدم تجذر تقاليد سيادة القانون في الوعي المجتمعي جعل الضوابط الدستورية والقانونية على السلطة مجرد ديكور لا أنياب لها.