ما يلفت في سيرة الروائي السوري حيدر حيدر الذي رحل الجمعة الماضية أنّه لم يكن جزءا من الضجيج الذي صاحب إعادة إصدار روايته "وليمة لأعشاب البحر" في القاهرة عام 2000، بعد سبعة عشر عاما من إصدارها في دمشق. فقد بدا أنّه التزم الصمت أو أنّه ظل يراقب اللغط الجاري حول روايته من بعيد إذ أعتبرها الأزهر مخالفة للقيم الدينية، أو أنّها (تمسّ الذات الإلهية)، بتوصيف غريبمن مؤسّسة دينية كبيرة.
حين صُودرت الرواية ومُنعت في القاهرة جرى تداول النسخة الدمشقية، سواء بطبعتها الأصلية أو عبر التصوير الذي كان الوسيلة الوحيدة لتبادل الكتب الممنوعة، أمّا الآن وبعد أكثر من عقدين على هذا الاجراء فإن الرواية صارت مطبوعة ومتوفرة مجّانا في عشرات المواقع التي تقوم بقرصنة الكتب دون مراعاة حقوق التأليف والنشر.
ماذا تبقى من رواية حيدر حيدر بعد رحيله؟
ما تبقى، كما يبدو لي، هو الدرس، درس استحالة منع الكتب وإبادتها نهائيا. وهو درس عرفناه وعرفته الأجيال الماضية مع "مدام بوفاري" و"عوليس" و"لوليتا"، و"عشيق الليدي تشاترلي" و"مدار السرطان" و"الغداء العاري"، و"1984" و"إله الأشياء الصغيرة" و"أولاد حارتنا" و"آيات شيطانية" وغيرها من الروايات التي صارت تصنّف في باب الكتب الممنوعة أو الملعونة.
يظن بعض الأدباء والكتّاب أن المنع، أو التكفير، لكتبهم يعمل على انتشارها وزيادة بيعها. وهذا صحيح من جهة ما لكنّه في المقابل يحوّل اسم الكاتب إلى فقاعة، أو فرقعة دعائية لا علاقة لها بعمله المنجز
طُبع من رواية حيدر في القاهرة ثلاثة ألاف نسخة كما قال حمدي أبو جليل الذي كان يدير تحرير سلسلة "آفاق الكتابة" إلى جانب إبراهيم أصلان، لكن لم يبع منها سوى أقل من مئتي نسخة، قبل أن تُسترجع بقيّة النسخ إلى المخازن، ويثير أحد الكتّاب المتطرفين زوبعة ضد الرواية وكاتبها وناشرها.
لا أعرف لماذا أشعر أنّ الذين قرأوا النسخ القليلة قبل تلك الزوبعة أهم من كثيرين قرأوا الرواية بتأثير من الضجيج. قال أبو جليل إنه وأصلان لم يكونا متحمسين للرواية لجهة خطابها السياسي النضالي إلا أنّهما وافقا على اقتراح نشرها لتمثيل "مختلف أنواع الرواية العربية بما فيها هذا النوع الزاعق!".
ويبدو أن الزعيق يصبح أكثر انفعالا حين تُصادر رواية ما، وهنا يظن بعض الأدباء والكتّاب أن المنع، أو التكفير، لكتبهم يعمل على انتشارها وزيادة بيعها. وهذا صحيح من جهة ما لكنّه في المقابل يحوّل اسم الكاتب إلى فقاعة، أو فرقعة دعائية لا علاقة لها بعمله المنجز.فالمنع والتكفير بمثابة نظّارة تُعطى للقارئ، فلا يستطيع قراءة العمل إلاّ من خلالها، فتصبح نظرته للنص ليست بمعزل عن هذا الضجيج الذي تَركّب في عدستي النظّارة.
ولهذا لم يُقرأ حيدر جيّدا، كما لم يُقرأ عشرات الكتّاب، قبله وبعده، من الذين واجهوا المصير نفسه وسواء كانت كتاباتهم تستحق الاهتمام، من زوايا فنّية، أم لا. فالكتاب الأهم هو الذي يُكتب بشكل جيّد، وليس غير ذلك. أمّا الضجيج حوله فهو ثقل إضافي على الكاتب الذي يهمّه أن يكتب، أكثر من أي شيء آخر.
ظلت الرواية حافز تفكير وتنوير، وفي حالات كثيرة كانت سابقة لاكتشاف ما لا يمكن اكتشافه إلا عبرها، حسب كونديرا، وهي في مستوى آخر تكشف جوانب من حياتنا الوجودية واليومية وتمتحنها، وقد تتفحص الانحطاط الاجتماعي والثقافي والسياسي، فتسائله وتختبره كمحنة إنسانية، لكن بعض القراء، وبسبب جهلهم فن الرواية، لم يلحظوا هذا الانحطاط في النص الأدبي ولم يتعاملوا معه كأدب، إذ يقومون بقراءته من منطلق الانحطاط الذي يعيشونه هم أنفسهم، في الواقع المنحط، سواء في مستواه الثقافي الاجتماعي أو السياسي. فيصدرون الأحكام الجاهزة في الأدب والأخلاق وما هو الأدب وكيف يكون؟ مع خليط من الشتائم، طبعا!
المشكلة حين يتوهّم المراقبون والقائمون على معارض الكتب ومنصّات النشر والتوزيع فيظنّون أن لديهم القدرة على الحد من انتشار كتاب، أو فكر، من خلال مصادرته أو منعه، أو حجبه بوسائل مختلفة
وكل هذا لا مشكلة فيه، مهما خرجت القراءات عن النص الأدبي، أو قيّمته بآراء خارجة عن المقتضيات الفنية التي أرادها الكاتب لنصّه، لأن هذه القراءات نفسها تصبح محل قراءة أخرى تتفحص ثقافة المتلقي، أو القارئ، وكيفية تعامله مع النص.
المشكلة، كما تبدو، حين يتوهّم المراقبون والقائمون على معارض الكتب ومنصّات النشر والتوزيع فيظنّون أن لديهم القدرة على الحد من انتشار كتاب، أو فكر، من خلال مصادرته أو منعه، أو حجبه بوسائل مختلفة.
فإذا كانت "مدام بوفاري" في منتصف القرن التاسع عشر قد استطاعت، بالرغم من وسائل النشر القديمة المحدودة، الوصول إلى القارئ، فما بالكم بكتاب يصدر الآن، ويستطيع كاتبه بضغطة واحدة من أصبعه أن ينشره على كل وسائل التواصل الاجتماعية.