كتب أستاذ الفلسفة الأميركي جون مارتن فيشر مقالة في مدوّنة "ذا ستون" التابعة لصحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان: ما مدى مصداقية تجارب القرب من الموت؟ وبما أنني أحد كثيرين عاشوا هذه التجربة الغريبة، فقد أحببت أن أدوّن ما أعرفه من باب المعرفة التشاركية لا من باب الرد والإفحام. السيد فيشر محق تماما عندما يصف المصطلح الذي يصف التجربة بأنه غير علمي، أي غير تجريبي، فهو يتحدث عن أناس يقولون إنهم دخلوا في نفق مظلم ثم أبصروا النور بعده، بمعنى إنها تجربة غارقة في الميتافيزيقا، أو أنها شيء يشبه الأحلام، أو الهلوسة، فالمخدرات قد تسبب عيش المتعاطي لمثل هذه التجارب. إنها تشبه التصوّف الذي يعجز أهله عن وصفه بالكلمات أو تقديم الحجج المنطقية، فيقولون لك: تعال وجرب بنفسك. إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة.
يقف البروفسور فيشر موقفا وسطا بين من ينكرون حدوث مثل هذه التجارب ومن يبالغون في إثباتها وفي كونها تحمل رسالة ما، ومما يدلّ على الجانب المزيف فيها عنده، أنها تعتمد جزئيا على تفاصيل حالة الفرد ودينه وثقافته، فالشحص قد يرى شخصا مادا يده، ويتخيل أنه السيد المسيح أو قد يرى غيره من الرموز المسيحية أن كان مسيحيا، أو بعض الرموز الإسلامية إن كان مسلما، وقل مثل هذا عن اليهود والبوذيين والهندوسيين وسائر البشر.
يكاد يتفق من خاضوا تجربة القرب من الموت على أنها تحدث في وقت لا يكون الفرد فيه في حالة يقظة، ويجب عندهم أن يعيش تجربة الخروج من الجسد، إذ يشعر أنه يطفو فوق جسده، ويستطيع أن يراه وما يحيط به
ولا يخفي البروفسور فيشر استياءه من كون أكثر المفتونين بالكتابة عن هذه التجربة هم من الأطباء وعلماء الأعصاب وأنهم يقررون بجرأة بالغة أن تجربة القرب من الموت تقدم "دليلا على الحياة الآخرة" وعن وجود "الوعي ما بعد الحياة"، وأنهم يعتبرون هذه التجارب بمثابة الإعلان عن الرحلة إلى ما بعد الحياة.
يكاد يتفق من خاضوا تجربة القرب من الموت على أنها تحدث في وقت لا يكون الفرد فيه في حالة يقظة، ويجب عندهم أن يعيش تجربة الخروج من الجسد، إذ يشعر أنه يطفو فوق جسده، ويستطيع أن يراه وما يحيط به.ولا بد أن يحدث له شيء من مراجعة حياته، وقد تصل إليه وصيّة أو نصيحة من أحبة له من الموتى، أو قد يرى بعض الشخصيات الدينية المعروفة، وقد يرى نفسه في ظلمة ثم يرى نورا يخترق الظلام، وربما يلمح منطقة مسوّرة أو تحيط بها الشباك، وقد يرى أنه قد عبر إلى الجانب الآخر من النهر.
رجال ونساء ممن مروا بتجربة القرب من الموت تحدثوا عن تحول عميق في حياتهم، لم تعد الأيام كما كانت من قبل، فأصبحوا أقل خوفا من الموت، وأصبحت حياتهم أكثر روحانية، وأكثر اجتماعية، وأكثر حبّا للسلام والتصالح، ونما لديهم المزيد من الاهتمام بالأخلاق، والقدرة على البذل والكرم، وترتسم على وجوههم دائما ملامح الرضا والسكينة وراحة البال. وفي الغالب ينظرون إلى عمرهم الذي بدأ بعد هذه الميتة التي لم تتم، كوقت إضافي أو نعمة، وهو عُمرٌ، في جميع الأحوال، جدير بعميق الامتنان.
حدث لكاتب هذه السطور أن تعرض لحادث سير تحولت سيارته بعدها إلى ما يسميه تجار السيارات "تالف" أي لم تعد قابلة للإصلاح وتحولت إلى ركام. لكنني لم أر رموزا دينية من أي نوع، ولا نهرلا ولا عبورا ولا مناطق مسوّرة ولا شباكا، ولا ظلمة ولا نورا، ولا وصايا ولا نصائح من أموات أو أحياء. ومع هذا، فقد شعرت بما وصفه البروفسور فيشر من طفو فوق الجسد استمر ثواني قليلة. أما مراجعة الحياة فحدث فيما بعد وليس في تلك اللحظة. ما شعرت به خلال تلك الثواني هو انقسام في الوعي، فكأنني صرت اثنين، أحدهما يرفع صوته بالشهادتين، والآخر يبحث في السيارة عن مصدر الصوت الذي يتشهد، وهو في غاية العجب من هذه الشهادة التي لم يأمر بها ولا يدري من أصدر الأمر بها. ثم اندمج الوعيان ليصبحا واحدا بعد انتهاء التجربة والعودة إلى الحياة.
بعد هذه التجربة، شعرت بكل ما يشعر به من خاضوها من شعور عميق بالامتنان والرغبة في التصالح مع الذات ومع الآخرين، وشعرتُ بالرضا. لكن هذا الشعور لم يكن ممتدا كما حصل للبعض، بل انتهى سريعا وعدنا إلى حياتنا الأولى بعُجرها وبُجرها، وبكل شيء جيد وسيء فيها
بعد هذه التجربة، شعرت بكل ما يشعر به من خاضوها من شعور عميق بالامتنان والرغبة في التصالح مع الذات ومع الآخرين، وشعرتُ بالرضا. لكن هذا الشعور لم يكن ممتدا كما حصل للبعض، بل انتهى سريعا وعدنا إلى حياتنا الأولى بعُجرها وبُجرها، وبكل شيء جيد وسيء فيها.
هذا البتر يذكرني مرة أخرى بالتجربة الصوفية، ففي كتاب "الكتابات الخفية" لآرثر كيسلر ذكر أنه عاش التجربة الصوفية مرات قليلة في كل حياته، وأنه لم يكن يستطيع استدعاءها متى شاء، على الرغم من أنها كانت ذات أهمية كبيرة بالنسبة إليه، إذ أنقذته وساعدته في أقبح الظروف. لكنها زارته مرات قليلة ثم اختفت، ولا أظنها كانت معه عندما قرر الانتحار في نهاية حياته، لأنه لم يعد يطيق ألم المرض.
تجربة القرب من الموت حقيقية من وجهة نظر كل من عاشها، وهي خرافة بالنسبة إلى المثقف الملتزم بالنهج العلمي العقلاني الذي لا يعترف إلا بما يمكن التحقق منه وكشف كذبه إن كان كاذبا، على طريقة فيلسوف العلم، كارل بوبر. وبالنسبة إلى من حدثت لهم، فالتجربة ليست منبه ساعة يعمل في كل صباح، بل مرة واحدة في الحياة أو مرتين، ثم تختفي لأنها تفترض أنك قد فهمت الدرس، درس الامتنان العميق لكل لحظة في الحياة.