البصرة: حين طالعتني صورة فوتوغرافية لجواز سفر الشاعر العراقيّ الرائد بدر شاكر السياب في إحدى مجموعات بيع الأنتيكات على "فيسبوك"، لم أكد أصدّق. تصوّرت أنها لعبة من ألاعيب برامج "الفوتوشوب"وحيل الذكاء الاصطناعي: صور من زوايا متنوعة للجواز مع مجموعة من الرسائل الشخصيّة المتبادلة التي تخصّ أحد أفراد أسرة الشاعر، وورقة قديمة دُوّنت عليها أبياتٌ عمودية ادّعى البائع أنها قصيدة مجهولة للسياب لم تُنشر من قبل. غير أنَّ أي قارئ جاد سيعرف أنها ليست من شعره لشدة ركاكة أسلوبها وضعفها الفنيّ العام وعدم تطابق خطّها مع خط السياب.
تبيّن لي، بعدما تواصلتُ مع البائع والمشرف على المجموعة، أنها فعلا النسخة الأصليّة لآخر جواز سفر استعمله السياب، وتوفي قبل نفاد صلاحيته التي توافق 18-7-1965، وقد طلب فيه مبلغ 6 آلاف دولار. كيف وصلَ الجوازُ إلى هذا البائع؟ ومن أين جاءت رسائل شخصيّة لأفراد أسرة يتراسلون في ما بينهم بأمان، ويبوحون عبرها بشؤون شخصيّة بعضها ممّا لا يرغب المرءُ في إطلاع العامّة عليه؟ فتح الجواز وإعلان بيعه باب التساؤلات عن تراث صاحب "أنشودة المطر"، مكتبته ومقتنياته وما تبقّى منها في بلاد عصفت بها الحروب والمحن والاقتتال الداخلي وتنقّل أهلوها من دار إلى دار داخل بلادهم.
لم يجب البائع عن مصدر ما يعرض من بضاعة، غير أنني حين سألتُ غيلان السياب، نجل الشاعر، فتحتُ جرحا عميقا في وجدان الرجل الذي شَهِد على ضياع تراث والده ونهبه مع مقتنياته الثمينة جرّاء الوقائع السياسيّة والاجتماعيّة المعروفة التي مرّت على العراق طوال النصف قرن المنصرم.
"لقد سُرقت هذه المقتنيات بالتأكيد"، أجابَ غيلان في حسرة.
وأضافَ، مُجيبا عن سؤال حول رحلة مقتنيات السياب ومكتبته وأرشيفه: "تنقّل والدي والأسرة تبعا - بحكم عمله- بين دور سكن عديدة. في بغداد ثم البصرة. وتحتفظ ذاكرتي بثلاثة منازل على الأقل هي فترة معاصرتي القصيرة لحياة والدي في مناطق النجيبية والخمسين حوش والمعقل. حيث كان المنزل الأخير في شارع إجنادين المقابل لمدخل ميناء المعقل والقريب من مبنى مديرية الموانئ. إن هذا التنقل المستمر شكل تهديدا لأي "تركة"استعملها السياب في حياته التي لم تعرف الاستقرار".
كما أن معاناة السياب المرضية، ومكابدة العائلة لتبعات تلك المعاناة شكَّلتا عائقا كبيرا إزاء العناية بمقتنيات ومكتبة رجل يصارع من أجل حياته. يروي غيلان فصلا فادحا من فصول تلك المعاناة: "كانت شهور والدي الأخيرة مع المرض بالغة الصعوبة. لم يقو على مغادرة المستشفى. وبسبب نفاد ”إجازاته“ الاعتيادية والمرضية قررت مصلحة الموانئ فصله عن العمل، وجرى تنفيذ قرار بإخلائنا قسرا من المنزل الذي يعود إلى الموانئ. أُخلينا من ذلك المنزل في اليومِ نفسه الذي أتانا فيه خبر وفاة أبي ووصول جنازته، وكنا أنزلنا أغراضنا للتو من شاحنة النقل في بيت خالي فؤاد العبد الجليل في منطقة الأصمعي".
في بيت الخال بقيت عائلة السياب ما يقارب الأربع سنوات حتى انتقلت إلى حي المعلمين بمنطقة باب الزبير، وإلى ذلك الوقت، كان أثاث البيت الذي عاصره السياب موجودا وتستخدمه الأسرة. من ضمنه المكتبة العامرة بأرشيف السياب ودفاتر شعره ورسائله منذ بداياته حتى أواخر حياته. لكن وقوع كارثة الحرب العراقية الإيرانية عصف بالأحوال وغير كل شيء.
بدخول العراق في حرب طاحنة مع إيران (1980-1988)، كانت البصرة معرضة بشكل يومي الى قصف مدفعي شديد طال حتى الأحياء المدنية، مما هدد حياة الأهالي الذين اضطروا الى الهجرة الداخلية المفاجئة داخل مدنهم وتركها إلى مناطق خارج سكناهم الأصليّة، أي إلى مناطق أكثر أمانا من خطوط النار. ومع توسّع العمليات العسكرية صارت البصرة كلها ساحة حرب، فقررت العائلة الهجرة إلى الموصل (شمال العراق)، وعهدت ببيت السياب إلى حارس يرعاه من اللصوص. وهنا وقع ما لا يُتوقع. إذ نهب الحارس (المؤتمن) المحتويات الخفيفة للبيت، ومنها، وفي الأساس، مكتبة السياب بما ضمّت من مصادر نادرة ومراجع باللغة الإنكليزية، وكتب ومجلّات مهمة. بل طالت يده حتى ألعاب الأطفال التي اشتراها السياب لصغاره في سفرات علاجه ببيروت وروما ولندن.
فقد بيت السياب ومكتبته أيام الحرب الجزء الأكبر والأهم من محتوياتهما. لقد كان الحفاظ على أثاث بيت ومقتنيات شخصية في ظل حرب طاحنة أتت على البشر والحجر، شأنا أقرب إلى الخيال و"الترف"في مدينة يُنعى فيها عشرات الضحايا يوميا.
سافر غيلان خارج العراق طلبا للدراسة عام 1980. كانت العائلة أثناء تلك السنوات الصعبة تتعامل بحسن نية وتسامح، مع كل من يطلب منها شيئا من مكتبة الأب: أوراقه أو صوره، أو ملفات ورسائل استعارها كتّاب وصحافيون ودارسون كانوا يطرقون الباب بحجة العمل على دراسة نقديّة عن السياب أو إعداد برنامج إذاعي أو تلفزيوني. "بعضهم -وأقولها بأسف- كانوا غير مؤتمنين على ما أعيروا إياه من تراث ومقتنيات ثمينة هي ليست ملكهم في الأساس. غير أنهم، ما إن حازوها، حتى تصرفوا معها تصرف المالك. افتقدت في زيارة للبصرة رسائل أصدقاء الوالد الكثيرة التي كانت في مكتبته، وقصاصات ما نشر عنه أثناء حياته في الجرائد والمجلات حيث كان يجمعها"، يقول غيلان.