هل يمكن الزعم بأن أدوات السياسة النقدية في دول الخليج ذات جدوى؟ معلوم أن الاقتصادات الرأسمالية تعتمد بدرجة كبيرة على السياسة النقدية لتحفيز النشاط الاقتصادي أو ضبط إيقاعه والتحكم بالتضخم. كانت هناك تجارب مريرة في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا خلال التاريخ المعاصر حين وقعت كارثة الكساد العظيم في أواخر عشرينات القرن الماضي وأوائل ثلاثيناته في الولايات المتحدة، تم توظيف السياسة النقدية وأدواتها للتعافي منها أو على الأقل لتخفيف وقعها. حصل الأمر نفسه في عدد من الدول الأوروبية، حيث عمدت السلطات النقدية في هذه الدول بعد الأزمة المالية في عام 2008، إلى تبني سياسات نقدية أدت إلى خفض أسعار الفوائد وشراء السندات الحكومية من أجل توفير الأموال لدى المؤسسات الخاصة والأفراد لتوظيفها في التوسع في الأعمال أو خلق مشاريع جديدة. خلال العام المنصرم، وإلى يومنا هذا، عمدت البنوك المركزية إلى رفع أسعار الحسم وضبط التمويل من أجل السيطرة على معدلات التضخم التي ارتفعت بعد بداية غزو روسيا لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022. وكانت برزت قيادات خلال القرن العشرين في البنوك المركزية مثل بول فولكر وألان غرينسبان في مجلس الاحتياطي الفيديرالي وغيرهما في بنك انكلترا والبنك المركزي الأوروبي ممن تمكنوا من صياغة سياسات نقدية حكيمة عززت النشاط الاقتصادي وتمكنت من التحكم بمعدلات التضخم في فترات مختلفة.
المطلوب هو تحرير النشاط الاقتصادي، خصوصاً نشاط مؤسسات القطاع الخاص والأفراد من تأثيرات تلك السياسات المالية.
لكن هل يمكن أن تكون السياسة النقدية في دول الخليج ذات أهمية مثلما هي مهمة في الدول الرأسمالية العريقة؟
معلوم أن دول الخليج، وهي دول مصدرة للنفط، اعتمدت منذ نهاية أربعينات القرن الماضي، أدوات السياسة المالية لإنعاش اقتصاداتها. إلا أن هذه الدول لم تتمكن على مدى عقود طويلة من التحرر من هيمنة الاقتصاد النفطي، في حين عمدت حكومات هذه الدول الى تطوير أنظمة نقدية وأسست بنوكا مركزية للتحكم بالنظام المصرفي وتوفير الرقابة على أعمال التمويل بموجب المعايير الدولية وأنظمة بازل. كما أن هذه البنوك أصدرت النقد وحددت أسعار صرف العملات الوطنية في مقابل العملات الرئيسية مثل الدولار والين واليورو والفرنك السويسري والجنيه الاسترليني. يضاف إلى ذلك، تعمل هذه البنوك المركزية على تغيير أسعار الحسم والفوائد المصرفية على ضوء المتغيرات التي تجريها البنوك المركزية الرئيسية، وخصوصاً مجلس الاحتياطي الفيديرالي حيث أن الايرادات السيادية الرئيسية لهذه الدول، أي إيرادات النفط، مقوّمة بالدولار. ونجحت البنوك المركزية الخليجية في ضبط أسعار صرف عملاتها وحماية استقرارها خلال السنوات والعقود الماضية مما رفع ثقة المواطنين والوافدين الى هذه الدول بهذه العملات.
مكّن الاستقرار في أسعار الصرف سكان هذه الدول من الحفاظ على مدخراتهم وثرواتهم ووفر لهم مستويات معيشية كريمة. يمكن الجزم بأن معظم من تولوا مسؤولية السياسات النقدية في دول المنطقة تمتعوا بالحكمة والمهنية، الامر الذي عزز الاستقرار النقدي. وقد ساهمت حكومات دول الخليج بهذا الاستقرار ومنحت البنوك المركزية الاستقلالية المستحقة في اتخاذ القرارات الضرورية عند حدوث متغيرات اقتصادية محلية أو دولية.
تمكين القطاع الخاص
يبقى السؤال المهم، هل يمكن الاعتماد على السياسة النقدية لتطوير الحياة الاقتصادية في دول الخليج من دون الاعتماد على السياسات المالية التي تتبعها الحكومات؟
المطلوب هو تحرير النشاط الاقتصادي، خصوصاً نشاط مؤسسات القطاع الخاص والأفراد من تأثيرات تلك السياسات المالية. كانت دول الخليج، وإن تفاوتت الأوضاع في الوقت الراهن، قد اتبعت أدوات الانفاق العام وآلياتها لدعم القطاع الخاص وتوفير المداخيل للأفراد بما أدى إلى تعزيز الاستثمار الخاص ورفع مستويات الاستهلاك العائلي والخاص. أحدث الاقتصاد النفطي تحولات مهمة في حياة سكان الخليج على مدى العقود السبعة الماضية، حيث ارتقى بمستوياتهم المعيشية وعزز أوضاعهم الصحية وتحصيلهم العلمي. لا يمكن أن نهمل الامكانات المهمة التي وفرها الانفاق العام لتحسين قيم الاصول العينية والمالية التي يمتلكها القطاع الخاص. مكنت دول الخليج الكثير من المؤسسات الخاصة من تطوير أعمالها من خلال التعاقدات وشراء السلع والبضائع والافادة من الخدمات التي تقدمها هذه المؤسسات. لذلك، تشكل الموازنات الحكومية ومخصصاتها المتنوعة مصدراً مهماً للدخل على مستوى المؤسسات والأفراد، وعندما تتراجع المخصصات في بنود الانفاق العام تتأثر الحياة الاقتصادية في مجملها.
لا بد من تحرير العديد من الأنشطة الرئيسية من هيمنة الدولة وملكيتها لكي يتاح للبنوك القيام بتمويل النشاط الخاص والتوسع في المشاريع.
كيف يمكن أن تكون السياسة النقدية في دول المنطقة أكثر جدوى وفاعلية؟ لا شك في أن السعودية والإمارات وعُمان عززت دور القطاع الخاص وعملت على تفعيل إجراءات التنوع الاقتصادي بما يمكّن من تحقيق إيرادات سيادية غير نفطية خلال السنوات المقبلة. تعزيز دور القطاع الخاص يعني تعزيز دور القطاع المصرفي وزيادة تمويلاته، بما يؤكد أهمية الرقابة والتحكم بالتمويل وإخضاعه للمعايير المعتمدة من البنوك المركزية. هكذا يصبح للسياسة النقدية دور مستحق وتصبح ذات فاعلية.
لا تزال الكويت تعتمد بدرجة كبيرة على آليات الانفاق العام وأدواته. صحيح أن السياسة النقدية تقوم على معايير مهنية محكمة ويتم تسعير سعر صرف الدينار الكويتي في مقابل سلة عملات تشمل الدولار وعددا من العملات الرئيسية، لكن الدور المحدود للقطاع الخاص لا يوفر السوق الائتمانية المناسبة لتعزيز فاعلية السياسات النقدية. لا بد من تحرير العديد من الأنشطة الرئيسية من هيمنة الدولة وملكيتها لكي يتاح للبنوك القيام بتمويل النشاط الخاص والتوسع في المشاريع. من أهم الأعمال الواجب تحريرها، الاسكان والكهرباء والمياه والخدمات اللوجستية مثل الموانئ والمطار والنقل الجوي والنقل البري.
هناك قناعات لدى المسؤولين في مختلف دول الخليج بأن التنمية المستدامة تتطلب دوراً مهماً للمصارف وتوسيع سوق الائتمان وتطوير الأدوات التمويلية. كشف تقرير لشركة مشاريع الكويت للاستثمار، "كامكو أنفست"، بأن إجمالي أصول البنوك الخليجية بلغ 2,9 تريليون دولار في نهاية الربع الثالث من عام 2022، كما أن القروض أو التسهيلات الائتمانية بلغت 1,9 تريليون دولار، في حين بلغت قيمة الودائع 2,2 تريليون دولار. وتختلف توزيعات الائتمان بين دولة وأخرى، حيث يحظى الائتمان الشخصي بنسبة عالية في الكويت ليبلغ 18,5 مليار دينار (60,5 مليار دولار) في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022 بموجب بيانات البنك المركزي، وبنسبة 35 في المئة من التسهيلات الائتمانية الإجمالية. غني عن البيان أن إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني ستمكّن من الارتقاء بالأداء المصرفي وتؤدي إلى تمويل أنشطة ظلت لزمن طويل تخضع لتحكم الدولة والقطاع العام. وعندما يتاح للقطاع الخاص رفع نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي، سيرتقي بالتالي القطاع المصرفي بأعماله ويعزز دوره في الحياة الاقتصادية، ومن ثم يتأكد الدور المهم للسياسة النقدية.
بادرت مجموعة من دول الخليج بالاهتمام بتطوير هياكلها الاقتصادية، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تلحق بقية دول المنطقة بهذا المسار التنموي المستدام.