الوحدة تقتل

الوحدة تقتل

تعادل تجربة الوحدة، لمن يعيشونها، تدخين 15 سيجارة في اليوم، هذا ما خلص إليه تقرير "الجراح العام" في الولايات المتحدة الأميركية، الموكلة إليه رسميا من قبل الحكومة شؤون الصحة العامة وتقييم المخاطر الصحية الجماعية، والذي يصنّف الوحدة خطرا على الصحة لا يقلّ فداحة عن التدخين والسمنة والمخدرات، إذ أن الوحدة تؤدّي إلى الموت بالسكتة الدماغية وأمراض القلب وغيرهما.

وإذ يدعو التقرير إلى تصنيف الوحدة بوصفها وباء، فلكأنّه يجزم بأنها، وعلى عكس ما يضمره اسمها، ليست حالة فرديّة، بل إنها حالة قابلة إلى الانتقال والانتشار الجماعيين، مثلما يصحّ الوصف على جائحة كوفيد الأخيرة، لكنّ وصف الوباء هنا محمول على الكثرة أيضا، إذ أن نحوا من 50 بالمئة من الأميركيين يعيشون وحدة يشعرون بها "مثلما يشعر المرء بالعطش والجوع.. فتنعكس على الجسد"، بحسب وصف التقرير ولغته، ولعلّ بدر شاكر السياب اختصر في قصيدته "سفر أيوب" هذا المعنى الذي يربط، في حديثه عن المرض، بين الأثر النفسي وذلك الحسّي:

"عيون الجوع والوحدة

نجومي في دجى صارعت بين وحوشه برده".

في حين أن العزلة "ظاهرة موضوعية تعني أن تكون وحيدا من الناحية الجسدية، وترتبط بعدد الأشخاص المحيطين بك"، فإن الوحدة "تعبير ذاتي، يرتبط بمدى شعورك بالاتصال، فقد تكون بجوار شخص واحد ولا تعاني الوحدة لأنك تشعر بالاتصال مع ذاتك ومع كل ما يحيط بك"

 ولم يجانب المسؤول الصحي الأميركي الصواب، إذ ميّز تمييزا واضحا بين الوحدة وشقيقتها العزلة، ففي حين أن العزلة هي "ظاهرة موضوعية تعني أن تكون وحيدا من الناحية الجسدية، وترتبط بعدد الأشخاص المحيطين بك"، فإن الوحدة على حدّ قوله "تعبير ذاتي، يرتبط بمدى شعورك بالاتصال، فقد تكون بجوار شخص واحد ولا تعاني الوحدة لأنك تشعر بالاتصال مع ذاتك ومع كل ما يحيط بك"، وهذا الاتصال هو ما عبّر عنه صاحب "المسخ" فرانز كافكا بقوله إن "العزلة سبيل لمعرفة ذاتك"، في حين يقف العديد من الدراسات عند رمزيّة تحول بطله "غريغور سامسا" حشرة، بوصفه نتاجا للوحدة العميقة التي يشعر بها، حتى مع أقرب الناس إليه، وهي الوحدة التي تعادل الاغتراب alienation.

ولعلّ أبا العلاء المعري خير من أقام مثل هذا التمييز بين الوحدة بوصفها أمرا مذموما، والعزلة بوصفها مسعى إيجابيا. فنجده يذمّ الوحدة بقوله:

ولو أني حبيت الخلد فردا

لما أحببت بالخلد انفرادا

أما العزلة فهي موقف أخلاقي وفلسفي من الناس، وهي تعبير عن حرية الاختيار:

طهارة مثلي في التباعد عنكم

وقربكم يجني همومي وأدناسي

عداوة الحمق أعفى من صداقتهم

فابعد عن الناس تأمن شرّة الناس

كلّ من العزلة والوحدة يعني في نهاية المطاف أن تكون فردا، لكنّ الفردية المتأتية عن الوحدة تنحو إلى علاقة (أو حتى لا علاقة) مضطربة مع الآخر، على نحو ما يقول الشاعر العربي: "وأفردت إفراد البعير المعبّد"، فأن تكون فردا ليس محمولا دوما على معنى جميل ورمانسي مثلما عوّدتنا الأشعار والأغنيات، بل يكاد هو ذاته أن تكون وحيدا، وقد يعني، كما في حالة طرفة، أن تكون منبوذا، مرفوضا من الجماعة، متروكا ومخذولا، وهو المعنى الذي ذهب إليه محمود درويش، حين أكّد الوحدة بوحدة أخرى، وأتبعهما بآه الحسرة:

"وكنت وحدي ثم وحدي، آه يا وحدي".

وهو المعنى نفسه الذي ذهب إليه طلال حيدر في قصيدته التي غنتها فيروز "وحدن" والتي يقال إنه كتبها في رثاء ثلاثة من الفدائيين الفلسطينيين الذين قتلوا في "عملية الخالصة" (1974):

وحدهن وجوهن وعتم الطريق

عم يقطعوا الغابي

وبإيدهن متل الشتي يدقوا على بوابي

 إذا كانت الحداثة احتفت بمفهوم الفردية، معلية من شأنه حدّ التمجيد، وجاعلة منه غاية ونضالا، فإنه يكاد يكون عملة ذات وجهين، في أحدهما ترتسم العزلة خيارا "صحيا" يسعى الفرد من خلاله إلى حقيقة ذاته، وفي الوجه الآخر تطلّ الوحدة بوجهها القبيح الذي ليس للمرء فيه اختيار

إذا كانت الحداثة احتفت بمفهوم الفردية، معلية من شأنه حدّ التمجيد، وجاعلة منه غاية ونضالا، ومقيمة له فلسفة نبيلة من الخيارات الحرّة والاستقلالية، البعيدة عن العرف والموروث، وعن طغيان الجماعة، فإنها تكاد تكون عملة ذات وجهين، في أحدهما ترتسم العزلة خيارا "صحيا" يسعى الفرد من خلاله إلى الاقتراب من حقيقة ذاته، والعالم المحيط به، وفي الوجه الآخر تطلّ الوحدة بوجهها القبيح، الذي لا يكون للمرء فيه غالبا أيّ خيار، بل إنه فريسته وضحيته، وهذا الوجه الآخر هو ما تترتّب عليه تلك الفاتورة الصحية الباهظة التي تحدّث عنها "الجراح العام" الأميركي.

ولم تفت التقرير نفسه الإشارة إلى أنّ الفئة الأكثر معاناة من الوحدة هي فئة المراهقين والشباب، لا لأن طغيان التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، يؤدّي في جوهره إلى اتساع الهوة بين الفرد والآخرين، لا إلى تقريب المسافات مثلما كان الغرض الأوّل منها، بل لأن هذه الوسائل تبعد المرء في المقام الأول عن ذاته، عن مشاعره وأفكاره وهواجسه وذاكرته وجسده، وتقذف به في فضاء افتراضي عام وفضفاض لا يني يزيده اغترابا عن عالمه الجوانيّ، بقدر ما عن العالم المحيط به، إن ليس أكثر.

وبعد، وبما أن الشيء بالشيء يذكر، وبما أن الوعي الصحي المعاصر بات يقتضي أن يترافق استهلاك السجائر (والكحول أحيانا) مع تحذيرات صارمة بأن "هذا المنتج إدماني وقد يؤدّي إلى أمراض قاتلة"، على تنويعات هذا التحذير وتفاوتها من بلد إلى آخر، أفلا يفترض أن يترافق شراء جهاز ذكي، أو فتح حساب على التواصل الاجتماعي مع تحذير مشابه: "إن هذا المنتج إدماني وقد يؤدي إلى أمراض قاتلة!"، أو أن يكتفي التحذير بالاختصار والحسم اللذين نجدهما في العبارة الشهيرة المحذّرة من التدخين: "الوحدة تقتل".

font change