بعد أن يقرّ عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بأن "الأسرة هي أحد المواقع بامتياز لتراكم مختلف أشكال الرأسمال ولتناقلها عبر الأجيال"، يسعى لأن يحدّد الكيفية التي يُتوارث بها الرأسمال الثقافي. ومن أجل ذلك فهو يميّز بين ثلاثة أشكال لهذا الرأسمال: فالرأسمال الثقافي إما أن يكون "مُجسّدا incorporé"، أي أن يتخذ شكل استعدادات ومعارف ومهارات، وإما أن يتّخذ شكلا "مُمَوْضَعا objectivé" في صورة ثروات ثقافية من لوحات فنية وكتب وآلات موسيقية، أو يتّخذ أخيرا شكلا "مؤسساتيا institutionnalisé" في صورة شهادات مدرسية أو دبلومات جامعية.
من مميزات الرأسمال الثقافي ألا يُتوارَث إلا في شكله "المجَسّد"، أما عندما يتخذ صورة شكل "مُمَوْضَع"، كما في حالة الكتب والمكتبات، فإنه يتخلّى عن صفته الثقافية ويُتوارث مثل أيّ ثروة مادية، شأنه في ذلك شأن الرأسمال الاقتصادي. لذا يلاحظ صاحب "الورثة" أن "ما هو قابل لأن يُتوارث، هو الملكية القانونية، وليس (أو ليس بالضرورة) ما يشكّل شرط تملّكها النّوعي، وأعني امتلاك الأدوات والقدرات التي تمكّن من استيعاب لوحة فنية أو استعمال آلة"، أعني المؤهلات الفكرية والمعرفية التي تسمح بالتملّك الفعلي للرأسمال "المُمَوْضَع" من حيث هو رأسمال ثقافي، وليس مجرد رأسمال اقتصادي نمتلك الحق القانوني للتصرّف فيه. فلِتوارُث كتاب، ثقافيا، لا يكفي أن نمتلك حقوق نشره وترجماته، وإنّما يلزم أن تكون لنا القدرة على التمكّن من محتواه.
لعلّ هذا التخوّف من تحويل المكتبات وكتبها إلى مجرد مِلكيات قانونية ورأسمال مُمَوضع، هو الذي أخذ يدفع كثيرا من الكتّاب والمثقفين إلى التعجيل بحماية "رأسمالهم الثقافي" بأن"ينقذوه من التوريث"، فيهبوه قيد حياتهم لمؤسسة من المؤسسات، إدراكا منهم، وقبل غيرهم، أنّ ما اعتبروه زبدة حياتهم وثروتهم الحقيقية، ربّما لم يكن يُنظر إليه كـ"رأسمال ثقافي" في أعين الأقرباء حتى أثناء الحياة، فما بالك بعد الممات. لا يعني ذلك بالضرورة أنّ هؤلاء الأقرباء لا علاقة لهم بالثقافة أو بالكتب، وأنّ هناك قطيعة بين جيل يؤمن بقيمة الثقافة وآخر لا يوليها اهتماما، كلّ ما في الأمر أن ثقافة الجيل الجديد ربما لا تعود لها علاقة، أو على الأقل، لا تعود مَعنية كثيرا بما هو مخزّن في مكتبات الجيل السابق.
هذا التخوّف من تحويل المكتبات وكتبها إلى مجرد مِلكيات قانونية ورأسمال مُمَوضع، هو الذي أخذ يدفع كثيرا من الكتّاب والمثقفين إلى التعجيل بحماية "رأسمالهم الثقافي" بأن"ينقذوه من التوريث"، فيهبوه قيد حياتهم لمؤسسة من المؤسسات
لا شكّ أنّ هؤلاء الكتّاب يدركون أنّهم إن لم يهدوا كتبهم هم أنفسهم، فإن ورثتهم سيتكفّلون بذلك ما إن يوارونهم الثرى، ومع ذلك فهم يصرّون على التعجيل بإهداء مكتباتهم. ليست هذه الظاهرة مذمومة في حدّ ذاتها، فهي تنقذ ثروات فكرية من الإتلاف، إضافة إلى أنّها تفتح أبواب المكتبات الخصوصية للعموم، فتمَكّن غير المقرّبين من الاستفادة من التّركة الثّقافية للفقيد، كما أنّها تفسح المجال للّذين كانوا يتابعون كتاباته أثناء حياته لأن يشاركوه قراءاته بعد الوفاة، فيزدادون معرفة به وقربا من إنتاجه، بل إنّها قد تتيح للباحثين أن يستأنفوا إنتاجات الفقيد فينشروا ما ظلّ مخطوطا عند صاحبه، أو يعملوا على إنجاز ما بقي مجرّد مشروع. ولعل تركة الفيلسوف لودفيغ فيتغنشتاين أوضح مثال على جدوى هذه العملية، فالمعروف أنّ ما نشره صاحب "الرسالة الفلسفية-المنطقية" أثناء حياته لم يتعدّ كتابا واحدا، بحيث تكاد كل أعماله تكون قد نشرت بعد الوفاة. وها هي مخطوطات فلاسفة كبار آخرين ما تفتأ ترى النور واحدة تلو الأخرى، شأن المنشورات الهامة التي تصدر عن أرشيفات م. هايدغر. ولولا أن مكتبات هؤلاء المفكرين لم تَتَمَأْسَس لتغدوَ أرشيفا عموميا، لما أمكن الاطّلاع على كثير من مؤلّفاتهم، أو متابعة ما كانوا يزمعون نشره.
لا داعي لأن نطرح هنا الوجه السلبي للمسألة، ونعرض، على سبيل المثال، لما جرى لتركة نيتشه، وما عرفه الكتاب الذي كتب له أن يحمل عنوانا ويعرف مصيرا ربما لم يكن صاحبه ليرضاه، خصوصا وأنه وقع في يد أخته التي وظفته توظيفا دفع فلسفة أخيها لأن تحمل تأويلات بعيدة أشد البعد عن مقصدها. ولعل مثل هذا المصير هو ما يجعل اليوم أصحاب المكتبات أنفسهم هم الذين يسارعون إلى الانفصال عن مكتباتهم وهم على قيد الحياة، فمن الملفت للانتباه حقا السّرعة التي صار يتمّ بها، لا أقول "تسليم" الكتب إلى المؤسّسة العمومية، وإنّما "التخلّص" منها. وربما كان تكفّل الكاتب نفسه بالعملية دليلا على تخمينه بأنّ الأمر لن يعني مطلقا ورثته، وأن ما سيخلّفه من كتب لن يُعدّ من بين أقسام التركة، أو على الأقل لن يُحسب كأشياء لها "قيمة ثقافية"، ولن يعامل كـ "رأسمال ثقافي".
لا يخصّ هذا الأمر منطقة بعينها من مناطق العالم، كما أنه لا يعني ثقافة دون أخرى. إلا أنه يظل ظاهرة حديثة نسبيا. وعلى رغم ذلك فربما لا نستطيع أن نُنكر أن الأمر لم يعد يعني فحسب مجرد مأسسة لأرشيف الكاتب، بقدر ما أصبح علامة على طلاق بين أجيال وقطيعة بين ثقافات. فالظاهر أن الشروخ بين الأجيال ما تنفك تتسع، وأن الثّقافات والاهتمامات لم تعد تُتوارَث بالطريقة نفسها التي كانت عليها فيما سبق. فحتى وقت قريب كنّا نسمع أن ورثة كاتب مرموق قد تنازعوا امتلاك كتب فقيدهم، أو أنّهم تراضوا على اقتسامها ليمتلك كل واحد منهم ما يعنيه منها. غير أنّ الجديد في الأمر أنه حتى قضية امتلاك الكتب ذاتها ربّما لم تعد تهمّ الجيل الحالي الذي علّمته التقنية أن امتلاك الكتب ليس شرطا ضروريا لتملّك المعارف، وأنّ العلم لم يعد يوجد لا في الصّدور ولا في السّطور ولا حتى في الرّفوف، وأن الكتَاب ليس بالضرورة أن يكون ورقيا يصنف في رفوف مكتبات تُهدى إلى مؤسسات كي تضمن حمايتها وتسهر على حفظها.
لم تعد قضية امتلاك الكتب ذاتها تهمّ الجيل الحالي الذي علّمته التقنية أن امتلاك الكتب ليس شرطا ضروريا لتملّك المعارف، وأنّ العلم لم يعد يوجد لا في الصّدور ولا في السّطور ولا حتى في الرّفوف
ذلك أنّ ما أصبح يباعد ثقافة الورثة الجدد عن ثقافة أسلافهم ليس مضمونها فحسب، وإنّما شكلها وطرق تبليغها وتخزينها والنفاذ إلى مضمونها وأسلوبَ تملّكها. وما السّرعة التي أصبحت تدفع الآباء إلى التخلّص من المكتبات، حتى وهم على قيد الحياة، إلا علامة واضحة على وعي السلف قبل الخلف، بهذه القطيعة بكل أبعادها، وهي ربما ليست مجرد قطيعة بين أجيال، وإنما هو تحوّل نوعي للرأسمال الثقافي، بل لعله أمارات طلاق بين الثقافة وبين الكتاب الورقي، والمكتبات التقليدية.