تُصادِفكَ على الطّريق كتاباتٌ لافتةٌ، لعلاماتٍ ترومُ إثارةَ انتباهكَ على سبيل الإرشادِ من بابِ التّشْويرِ المُفصَّلِ لخطِّ اتجاهكَ، ومنها التحذيرُ إلى وجودِ خطرٍ وشيكٍ، وهذهِ بعضُ أمثلتهِ:
انتباه، منعرج على اليسار أو على اليمين- انتباه، خطر جوّي- انتباه، طريق زلقة - انتباه ممرٌّ يؤدّي إلى الحافّة- انتباه، طريق بها حدبة- انتباه، خطر متنوّع - انتباه طريق منحرفة...إلخ
الطّريفُ واللاذعُ في الأمرِ أن ينْسحبَ معنَى أو مُحتوى هذا التّشويرِ على حيواتِ السّائقين أو الرّاكبين أنفسهم معا، مُغادرا هذا -المعنى أو المحتوى- حدودَ وظيفته الإرشاديّة كدليلٍ للطّرقِ السيّارةِ منها والوطنيّة والثّانويّة، إذ لا تخلو سِيَرُ حَيَوَاتِنَا كسائقين وركّابَ في آنٍ من المنعطفاتِ الخطيرة في تجاربِ المهنة والزواج والصداقات خصوصا، والصّراع الاجتماعيّ عموما...، وكذا تَحْفَلُ أحيانا بِسَلْكِ الطّرُقِ المنحرفةِ في الاختياراتِ العفويّةِ أو الواعيةِ فالأمر سيّان، أو من المشي في مساراتٍ محفوفةٍ برعبِ السقوطِ في أكثر من هاويةٍ إنسانيّةٍ...إلخ
غير أنّ أَثَرَ هذهِ العلامات الطّرقيّة يتبخّرُ هاجسُهُ المتوقّدُ ما أن يصلَ الواحد منّا منتهى المسافة، أو يبلغُ سِدْرةَ الاتّجاه.
بالمقابل هناك علاماتٌ طرقيّةٌ لامألوفة تأبى غرابتُها أن تتلاشى، مُستحوذة على التفكير والتساؤل أطول ما يكون من غيرها، ومنها على سبيل المثال:
انتباه، ضباب متردّد.
كيف يتردّد الضّباب !
ها قد أسبغَ واضعُ العلامة أو مُجْترحُها معنى إنسانيّا وحيوانيّا في آن على الضّباب. فأوّل ما يخطر في الذّهنِ أنّ الضّبابَ مثلهُ مثلَ الإنسان أو الحيوان يتردّدُ!
لكن فِيمَ يتردّدُ الضّبابُ؟
يتردّدُ في الإقدام أو التراجع؟ هل يتردّد بمعنى الحيرة؟ إن كان كذلك فَفِيمَ هو حائرٌ يا تُرَى؟ كأنّ الضباب كائنٌ بصددِ اتّخاذِ قرارٍ عصيٍّ على الحسم، وَبِذَا هو مضطربٌ، مشوّشٌ، محتارٌ!
لا تخلو سِيَرُ حَيَوَاتِنَا كسائقين وركّابَ في آنٍ من المنعطفاتِ الخطيرة، وكذا تَحْفَلُ أحيانا بِسَلْكِ الطّرُقِ المنحرفةِ في الاختياراتِ العفويّةِ أو الواعيةِ فالأمر سيّان، أو من المشي في مساراتٍ محفوفةٍ برعبِ السقوطِ في أكثر من هاويةٍ إنسانيّةٍ
لعلّ مجازَ هذا التّوصيف يقول بِمِلْءِ قلقِ الحالةِ: السيّد الضباب هنا، في هذه المنطقة، لَمْ يؤلْ بعد إلى شكلٍ واضحٍ، نهائيٍّ، ثابتٍ ومستقرٍّ على هيئةٍ مستوفيةِ الاكتمالِ، وَلِذَا يجبُ الحذرُ منه، فهو قيْد التشكّل، في طَوْرِ اللّااستقرار، مضطربا ما يزالُ، مِمّا ينذرُ بالخطورة في الاتّصال به، أو محاذاته.. تماما قد يُوهِمُكَ بأنّه مجرّد ضبابٍ خفيفٍ، آيلٍ إلى زوالٍ عمّا قريبٍ، والرؤيةُ من خلاله ممكنةٌ وَشِبْهُ جَلِيَّةٍ، لكن هيهات،على رِسْلِكَ.. فحقيقتُهُ مخادعةٌ.. على نحوٍ مفاجئٍ سيمكرُ بك لا محالة. على نحوٍ مباغتٍ سيهاجمكَ بتمَوُّجِهِ الهائل، وعندئذٍ تنعدمُ الرؤية الصّفيقةُ، وتصيرُ في ذمّة العمى والمجهول الذي قد ينحرفُ بك إلى ما لا تُحمدُ عواقبهُ الفادحةُ...
بخلاف ذلك قد يحيلُ التردّدُ على شيءٍ آخر، وهو الوجهُ الآخرُ للمُفردةِ، أن يكون الضبابُ مُتردّدا بمعنى يتردّدُ على ذلك المكان، والمعتادُ منه أن يتخلّفَ إلى تلك المنطقة، إمّا زائرا يقصدُها المرّة تلو الأخرى، أو مقيما فيها بشكلٍ متأرجحٍ بين الخفاءِ والتجلّي، أو مُغِيرا كجيشٍ بين الكرّ والفرّ، كما لو يتعلّقُ الأمر بلعبةٍ قانونها اللئيمُ هو الحضور والغياب في آنٍ.
والتردّدُ إذا ما احتكمنا إلى المعنى العلْميّ للمفهوم، مقياسٌ لتكرارِ حَدَثٍ دوريٍّ، مثل تردّد موجةٍ صوتيةٍ أو ضوئيةٍ أو كهرومغناطيسيّةٍ، وبذا فالضّبابُ وِفْقَ هذا المعنى ليس فقط محض ظاهرة مناخيّة طارئةٍ عن تكاثفِ بخارِ الماء قريبا، خفيضا من سطح الأرض، حيثُ تتّحدُ جزيئات الماء ويتخلّقُ منها زخمُ قطراتٍ عالقةٍ في الهواء، بل هو كذلك ظاهرة موسيقيّة! كيف لا وهو يتردّد مثل ذَبْذَبَةِ موجةٍ صوتيّةٍ أو كهروميغناطيسيّة!
من يصدّقُ أن يكون الضبابُ في الأصل محض موسيقى - حَالَمَا يتردّدُ-!
مهما يكن من أمرٍ، في أحواله الهلاميّة الثلاثة: محتارٌ أو معتادٌ على ارتيادِ المكان أو مُتذبذبا كموجةٍ، فالضّبابُ في هذه العلامة الطرقيّة ليس مألوفا إطلاقا، ويتفرّدُ بغرابةٍ لاسعةٍ، إذ كفَّ أن يكون ظاهرة مناخية، مستعيرا من الإنسان إنسانيّته: حيرته وقلقه أوّلا، وثانيا خُطاهُ في ارتيادِ هكذا أمكنةٍ كَمُتَنَزِّهٍ في الرّبوعِ، وفوق ذلك يحدث أن يصيرَ موسيقيّا على سبيل الاحتمال وهو يتذبذبُ هسهسة في موجةٍ غنائيّةٍ غير مسموعةٍ...
وأمّا ثالثا أيّها "الضبابُ المتردّدُ": حَرِيٌّ بكَ - على هذه الحالِ المُضطربةِ، المتأرجحةِ، المُبهمةِ - أن تكون عنوانا فاتِنا لروايةٍ أو ديوانٍ شعريٍّ أو عملٍ سينمائيٍّ...
لا تخييلَ تستقيمُ رؤيتهُ بدون ضبابٍ، إذ ما نتخيّلهُ لا يكون واقعيّا بالكامل، فهو شبه حقيقيٍّ، ومعظمه حلميٌّ وافتراضيٌّ، وبهذا لا بدّ أن يكون ضبابيّا لكي يكون متخيّلا بالفعل
مهما كان الضبابُ محفوفا بخطورةٍ كما تؤشّرُ العلامةُ الطّرقيّة، وكيفما استوجب الدّنوّ منه الحذرَ، أو شحذ اليقظة دونما اطمئنانٍ إلى كثافته المتهادية خفيفا كان أو مُحتشدا، فعلاقةُ الارتيابِ التي يفرضُها التَّشويرُ، تجعلُ منهُ ندّا في هكذا منعطفٍ، ندّا يجبُ أن تحسبَ حسابهُ جيّدا حتّى لا تقع في فخّه.
هذه العلاقة الارتيابيّة بالضّباب هي ما يجمع بين واقعيّته ومتخيّله على نحو مفارقٍ، فلا ضباب تستقيم به الرؤية واقعا - إذ هو قد يحجبُها بالكامل أو جزئيّا، فيكون التوقّعُ احتماليّا ومفترضا في معظمهِ- وبالمقابل لا تخييلَ تستقيمُ رؤيتهُ بدون ضبابٍ- إذ ما نتخيّلهُ لا يكون واقعيّا بالكامل، فهو شبه حقيقيٍّ، ومعظمه حلميٌّ وافتراضيٌّ، وبهذا لا بدّ أن يكون ضبابيّا لكي يكون متخيّلا بالفعل.
لا يقفُ حصادُ تأويلاتِ علامة "الضّباب المتردّد" عند هذه التخوم، وقد يحلّقُ "الضباب المتردّدُ" أبعد من طوقِ علامته وأفقها، ليتطابق مع أحوال البلاد بأكملها، سياسيّها واجتماعيّها واقتصاديّها و...
نعم، حذارِ أيّها الوافدُ أو الزّائرُ أو الدّاخلُ لتوّهِ هذه البلاد، فضبابُها جدّا مُتردِّدٌ!
* انتباه ضباب متردّد!: من العلاماتِ الطرقيّةِ في المغرب.