العلاقات الفرنسية-البريطانية من الملكة فيكتوريا إلى الملك تشارلز الثالثhttps://www.majalla.com/node/290811/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83%D8%A9-%D9%81%D9%8A%D9%83%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D9%83-%D8%AA%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%84%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB
يشارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حفل تتويج الملك تشارلز الثالث، في انتظار استقباله في باريس بعد إلغاء الرحلة الملكية التي كانت مقررة نهاية مارس، بسبب الاحتجاجات والاضرابات الأخيرة في فرنسا.
يدلل هذا الحضور الفرنسي العالي المستوى على ماهية علاقات البلدين الأوروبيين الجارين، اللذين كانا على مر التاريخ من الحلفاء تارة، ومن الخصوم تارة أخرى، وجرى وصفهما بأنهما "أفضل الأعداء" في مراوحة بين " الوفاق الودي" و" التنافس الشديد" .
ويتضح من متابعة المرحلة المعاصرة أن فرنسا والمملكة المتحدة بحاجة إلى بعضهما البعض لمواجهة التحديات المشتركة والدفاع عن مصالحهم ومنظومة قيمهم.
وتميزت حقبة الملكة البريطانية الراحلة اليزابيت الثانية بالكثير من الود والصلة السياسية المميزة مع فرنسا. وتعتبر أوساط قصر الإليزيه أن " الصداقة والثقة والروابط التاريخية" تجمع بين إيمانويل ماكرون وتشارلز الثالث.
يأتي هذا الحدث الملكي الكبير في أعقاب مرحلة مضطربة بين الطرفين انطلاقاً من البريكست ( الاستفتاء في 2016، اتفاق الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي في 2020، والاتفاق حول أيرلندا الشمالية في 2023)، إلى اتفاقية أوكوس في 2021، بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، والتي ألغت صفقة الغواصات الفرنسية - الأسترالية، وصولاً إلى مشاكل الهجرة، والنزاع على حقوق الصيد وغيرها من اشكالات تراكمت خاصة خلال حكم بوريس جونسون وإسلوبه المشاكس، وعدم تشدد فرنسا في مكافحة عبور المانش من المهاجرين غير الشرعيين.
يتضح من متابعة المرحلة المعاصرة أن فرنسا والمملكة المتحدة بحاجة إلى بعضهما البعض لمواجهة التحديات المشتركة والدفاع عن مصالحهم ومنظومة قيمهم.
بداية جديدة للعلاقات
إلا أن التمهيد لإعادة المياه الى مجاريها إبان وجود ليز تراس في 10 داوننغ ستريت، أثمر مع تلاقي إيمانويل ماكرون وريشي سوناك في القمة الفرنسية البريطانية السادسة والثلاثين في باريس يوم العاشر من مارس 2023. وعلى الرغم من أن الحصاد كان متواضعاً ، إلا أن القمة مثلت نقطة تحول في العلاقة الثنائية، والتوافق على "بداية جديدة وطموح جديد".
إزاء ضغط التحولات في عالم أكثر اضطراباً ويتراجع فيه "النموذج الغربي"، وإزاء عودة الحرب إلى أوروبا ، عاد التركيز على التعاون الضروري لمواجهة المخاطر والحفاظ على حيوية العلاقات الثنائية.
وكانت هذه القمة ضرورية للقائدين الشابين ، إذ كانت هذه أول قمة ثنائية لريشي سوناك منذ تعيينه رسميًا كرئيس للوزراء في أكتوبر 2022، وكانت فرصة للبرهان على أن أوروبا تبقى في قلب اهتمامات حكومته. وستمكنه أيضًا من متابعة طموحه في تعزيز تعاون المملكة المتحدة مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
أما بالنسبة للرئيس ماكرون، عُقدت القمة بعد عام على انعقاد القمة الاستثنائية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة في فرساي ، وكأنه يحرص دوماً على دور قيادي في أوروبا.
والجدير بالذكر أن العلاقة الدفاعية الفرنسية البريطانية تبقى حجر الزاوية في العلاقة الثنائية، مع التأكيد دوماً على التزامات معاهدات لانكستر هاوس (نوفمبر 2010) والرغبة في مواصلة العمل معًا. بشكل خاص في إنتاج الجيل القادم من الصواريخ البحرية والمضادة للسفن وفي تطوير أنظمة طيران قتالية قابلة للتشغيل المتبادل.
ويتجاوز البلدان آثار بريكست السلبية لأن الروابط التي تماسكت منذ عهد الملكة فيكتوريا ( 1837 - 1901) ، تعود وتعصى على المتغيرات . بالرغم من ذكريات حرب المائة عام، ودور المملكة المتحدة الحاسم في هزيمة نابليون (عام 1815 )، بدأ مشوار آخر مع الملكة فيكتوريا التي أعادت الزخم إلى العلاقة الثنائية مع الملك لويس فيليب الأول. وتكلل ذلك بما سمي " الوفاق الودي"، وتكرر في ظل الجمهورية الثالثة في فرنسا، مع تبلور تقارب جديد بين البلدين ، تحت نفس اسم "الوفاق الودي" عبر التوقيع في عام 1904 على سلسلة من الاتفاقيات الثنائية المشار إليها بهذا الاسم.
وفي نفس السياق التاريخي، لا يمكن إغفال الدور البريطاني الذي اسهم في انقاذ فرنسا خلال الحربين العالميتين.
بيد أن اللعبة السياسية عادت الى مجرى التجاذب، خاصة عندما رفض الجنرال شارل ديغول لمرتين انضمام بريطانيا الى المجموعة الاوروبية، ولم يتيسر لها ذلك إلا في بداية السبعينيات من القرن الماضي مع وصول جورج بومبيدو إلى الإليزيه.
وكان موقف ديغول مثيرا للاهتمام وتشكيكه بصدقية الرهان الأوروبي للمملكة المتحدة، بالرغم من استضافة لندن للجنرال لكي يقود " فرنسا الحرة" ونسجه علاقة متباينة مع السير ونستون تشرتشل، وربما يبرر ذلك قول تشرتشل : " إذا تم تخييرنا بين المحيط والقارة، لاخترنا المحيط من دون تردد" أي أن الرهان الأميركي هو الأساسي بالنسبة للندن، ولذلك ساد دوما جانبا من الحذر وعدم الثقة في محطات من الصلات الفرنسية -البريطانية.
وأتى الخروج البريطاني من الاتحاد الاوروبي، ليؤكد على صوابية نظرة ديغول وعلى أولويات بريطانيا.
هكذا، لا توجد باريس ولندن غالباً على نفس الموجة، مما يطرح مجالات تفاهم أحياناً ، وإشكالات مستقبلية خصوصا حيال السياسة الخارجية والصلات مع منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
لا توجد باريس ولندن غالباً على نفس الموجة، مما يطرح مجالات تفاهم أحياناً ، وإشكالات مستقبلية خصوصا حيال السياسة الخارجية والصلات مع منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وفي هذا السياق، لا يمكن إنكار عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانعكاساته. لكن خميرة الاستمرارية متوفرة لعوامل عديدة من بينها:
اللغة الإنجليزية هي اللغة الأجنبية الأولى التي اختارها 95.7 في المئة من طلاب المدارس الثانوية الفرنسية.
لندن لا تبعد عن باريس إلا ساعتين وخمس عشرة دقيقة بالقطار.
تأتي المملكة المتحدة بعد الولايات المتحدة الأميركية في احتضانها لفروع 3600 شركة فرنسية.
فرنسا والمملكة المتحدة هما القوتان العسكريتان الكبيرتان غرب أوروبا ولديهما معايير موحدة لعمل جيشيهما خاصة قوة المشاة المشتركة، ولهما القدرة على تغطية جميع المهام الدفاعية.
يملك البلدان أكبر منطقة بحرية خالصة مما يستدعي التعاون والمراقبة.
الفراق الصعب
مما لا شك فيه أن الخيار الإنجليزي الخروج من أوروبا في 2016 شكّل تحولا أكد على تصدع العولمة النيوليبرالية وأحدث إنذارا مبكرا عن أحوال الاتحاد الأوروبي والقارة القديمة.
وهكذا بعد الفراق الصعب أواخر 2020، داهمت الصعوبات البريطانيين وكثرت الأسئلة بخصوص مستقبل البلاد.
وتبين للوهلة الأولى أنها لن تكون نوعا من "سنغافورة على نهر التايمز"، بل إنها تواجه كابوس ما بعد الأحلام الوردية حول "بريطانيا كونية" متجددة تكلم عنها دعاة البريكست.
على كل، على الصعيد الاوروبي، توجد مصلحة مشتركة للطرفين الفرنسي والبريطاني بتغليب عناصر التقارب حيال الأزمات العالمية الكبرى ( خاصة حرب أوكرانيا والوجود المشترك ضمن الناتو) و يبرز تحديدا أهمية صياغة مقاربات مشتركة حيال بعض المناطق الإستراتيجية.
في هذا الإطار، تمنح لندن الأولوية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي تتجه لتصبح "المركز الجيوسياسي الجديد للعالم"، وقوته الاقتصادية الضاربة.
بالرغم من تنافسهما الشديد، لا بد للمملكة المتحدة وفرنسا من استكشاف أشكال التعاون في هذه المنطقة الحساسة، مع احتمال حصول تباعد بعد زيارة الرئيس الفرنسي الأخيرة إلى الصين وتبشيره بالاستقلالية الأوروبية عن الولايات المتحدة.
على الأرجح ، سيزور الملك تشارلز الثالث فرنسا في سبتمبر/أيلول المقبل، وستكون المناسبة لفتح صفحة جديدة من علاقة تاريخية حافلة ومتشعبة.