دمشق: لا يُمكن الكتابة عن حدثٍ كوفاة حيدر حيدر صباح الجمعة بعد معاناة صامتة مع السرطان على أنه وفاة لأديب فقط. أغلب الذين ولدوا في النصف الأول من القرن المنصرم يملكون ما يتجاوز الأدب في سيرتهم، رحلة المحاولة العربية لإنجاز الحداثة والثورة جعلت كُتّاب تلك المرحلة يملكون سيرا ومحطاتٍ فيها من النزوح، والهروب، والخوف، والانفعال السياسي والثقافي ما يجعل سيرة أبدانهم موازية أحيانا لسيرة أقلامهم.
نحو المدن
انطلق حيدر حيدر نحو المدن الحقيقيّة والكُبرى منذ خمسينات القرن الماضي، حيثُ كانت حلب لإتمام الدراسة في مجال التربية والتعليم التربوي. ثمّ دمشق من أجل التشبّع في الأيديولوجيا والخيار والتمتّع بمحاولة تتوازى مع الموهبة من أجل الكتابة والنشر. المنهجيّة التي أعجبته كمدرّس حوّلته دون شك إلى حالم أيديولوجي ذي نزعةٍ تعليميّةٍ وسياسيّة. لا شكّ أن دور المُعلم قد بدا مُثيرا في حياته، النخبة المركّبة التي احتوتها الأيديولوجيّات جعلتْه سياسيّا بلغةِ مُعلّم صادق، وأديبا حارّ الكلمة ومُحاربا فيها، وأيضا متذكّرا مُخلصا لكل ما شاهده في الريف من قحطٍ وجوع وظُلمة. كان الجهل الذي أحاط القرية، والغابات المفتوحة أمامه، نزاعا دائما في داخله. هذا ما سنعرفه من هوسه في الوصف المكاني، وما يجعله في كل رواية معاندا لفراغِ المكان في النص. تركُه الغابة والقرية عوضه بعين تلهث لوصف المكان دون أن تكل.
من قصص قصيرة نُشرت إبّان وجوده في حلب، إلى مجلة الآداب اللبنانية وهو في دمشق، أصبحت رحلة الكتابة أكثر تجذرا على مستوى القلم، وأكثر اضطرابا على مستوى الجسد، اشتعلت دمشق من الناصريّة إلى البعث، وبدا فيها غارقا ببعدٍ عروبي، تأثير الناصرية والاشتراكية أعطاه خطابيّة الشخصية المؤثّرة بجسدها وكيانها مثل عبد الناصر، والشخصيات الشيوعية المُلهمة، والكتابة الواقعيّة ضمن قالبٍ ستكون واضحة منذ القصص والروايات الأولى، أدب الواقعية والنزعة المتألّمة على واقعٍ طبقيّ وفئوي، والذي يكون فيه تعاطفُ الروائي والقاصّ حاضرا دون تجرّد. لم يتنازل المُعلّم أبدا عن الدرس الذي يُريد تلقينه في روايته أو قصصه.
في السبعينيّات كانت الرحلة إلى الجزائر-الأستاذ في المهمة التي يُحبّها، العروبة كجزءٍ من الهوية والنضال، والهدوء الذي يمكن الحصول عليه في دولة خرجت من مجزرة ضدّ المحتل، وحربٍ أهليّة ناشئة- بُعدا عنفوانيّا صادقا جعله في مهمّة أحَبّها دون شك، واكتشف فيها نزوحا مؤلما آخر لإيجاد المعنى، وذلك للمرّة الرابعة بعد حلب ودمشق وبيروت على المستوى المجرّد. سكن بيروت مرات كثيرة، حينما كانت آماله تمضي مع الرسالة التي تحمل قصّته وصولا إلى مجلة الآداب. الرسالة النص ها هنا جسدٌ آخر عرف معناه حيدر حيدر، لقد عرف تماما سيرة الجسد والكلمة في التنقّل والبحث عن أمانٍ ما وظهورٍ آمنٍ أيضا.