كُثُرٌ من ينكرون اليوم فاعلية الرواية الطويلة جدا جدا، تلك التي تحمل آلاف الصفحات، فما الممكن أن يقول الروائي فيها؟ وهل يحتمل الوقت والقلب والحياة لقراءة ما لا يُحتمل من طرح قضايا بائدة أو مكررة وعائدة من بهو الذاكرة.
بالطبع هذه الروايات الطويلة جدا لها أسيجتها، وشقوقها السرية التي تخترق مخيلة القارئ نحو الينابيع للارتواء، حتى تصبح ضد المحو والنسيان، وهذا النوع من الرواية بلا شك قليل في العالم، لكنه وعلى الرغم من ندرته ومرور السنين على نشره، بقيت خالدا، إذ يبدو أن الروائي العنيد والصبور والممتلئ بالحب والمعرفة، لديه في هذا السرد الطويل قلعة يحتمي فيها ويتعلق بها، يحولها إلى جغرافيا إنسانية بكل ما لديه من حواس، تمتد إلى أمكنة مشرقة مع القارئ، وتنبسط الصفحات حول تلك القلعة، وتتوسع وكأنها لا تنتهي دون ملل في بياض الدهشة، من فضاء التشويق لفضاء التأمل، مثل طير يطير، وحلم يعلو ويهبط، في خطوط أفقية وعمودية ودائرية، لتتوالى الأحداث وتكتم الأنفاس، ويمضي ساردا ليزيد من إيقاع ضربات قلوبنا، بلغة مروضة، توقظ بوخزاتها، لننتبه إلى الزمان والمكان كل حين، ونحن في سفر منظم، أنيق تارة، وفوضوي تارة أخرى، لتمضي الرواية وتتشكل اللوحة التشكيلية بألوانها الخيالية التي تحتاج تفسيرا، وأحيانا كنوتة موسيقية، فللكلام إيقاع، أو ربما وجبة دسمة، والتعبير لون ومذاق ورائحة وملمس وهيئة، ومن لا يعشق هذا النوع من الرواية يقوم بالتفكيك وإعادة التركيب، وأحيانا تتحول الرواية الشاسعة للبعض إلى قصيدة طويلة أطول من أطول معلقة، وهنا يأتي الترتيل، ومن لا يروقه الترتيل، ينتقد.
هذه الروايات الطويلة جدا لها أسيجتها وشقوقها السرية التي تخترق مخيلة القارئ نحو الينابيع للارتواء، حتى تصبح ضد المحو والنسيان، وهذا النوع من الرواية بلا شك قليل في العالم، لكنه وعلى الرغم من ندرته ومرور السنين على نشره بقي خالدا
إنها الأصابع العازفة في تلك المسافات الفارغة على الشاشة البيضاء، منذ أن كانت ورقةٌ وقلم، لتبقى الحروف ذاتها ترشدك لأصوات الآخرين، ولانتقاء الشخوص وما هو مفترضٌ من حبكة وحكمة، وتخرج صورة فوتوغرافية في رأس القارئ، بكلمات رحبة، من الإحساس والرؤية، وتأتي السطور السردية لتخبرك وتفتح أنت التفسير.
الروايات الطويلة جدا، تلك التي تتألف رحلة سردها من عدة مجلدات، ربما مجلدين أو ثلاثة، وبعضها يصل إلى سبعة مجلدات، كما هو "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، التحفة الفرنسية الأدبية، لم لا؟ أليست الرواية المبتكرة لجميع الأوقات؟ حيث يستغل مارسيل قصة حياته ليعصرها عصرا ويحولها إلى شخصيات وبيئات اجتماعية في عصره من المجلد الأول إلى السابع، في مليون ونصف المليون كلمة، فمن يحتمل سوى الشغوفين في مصاحبة حكايات الحياة؟
وكما هي الرواية الصينية "رحلة إلى الغرب: مغامرات ملك القرد" وآلاف الصفحات التي كتبها مجهول صيني، ليصف رحلة حجه الطويلة إلى الهند، باحثا عن الكتب البوذية المقدسة، مع راهب وتلامذته الثلاثة، والذهاب إلى جبل الروح، إلا أن الرحلة في حقيقتها ليست بهذه البساطة، لأنها تتحول إلى رحلة داخلية حقيقية من الرؤى والارتواء.
وإن ذهبنا إلى أسبانيا في رحلة ساخرة طويلة مع دون كيشوت لمؤلفه "ميغيل دي سيرفانتس"، فمن يقرأ قرابة ثلاثمائة وخمسين ألف كلمة؟ من يقرأ كل هذا الفن الساخر؟ لعلمي أن البعض يتلو هذا العمل النموذجي سنويا وبشكل دوري، مؤكدين أنهم كلما قرأوه تجدد.
ااقرأ أيضا: مئوية عاصي الرحباني: متحف الحنين
إنها الأصابع العازفة في تلك المسافات الفارغة على الشاشة البيضاء، منذ أن كانت ورقةٌ وقلم، لتبقى الحروف ذاتها ترشدك لأصوات الآخرين، ولانتقاء الشخوص وما هو مفترضٌ من حبكة وحكمة
وأما القريب من هذا العدد "الأخوة كارامازوف"، لدوستويفسكي، وهذا المالك المخمور لأرضه الخاصة، لديه أربعة أطفال، وهو شخصية عنيفة ومفكر بارد، فكيف هي علاقته الفاسدة بأبنائه، السلبي والصغير والمتدين واللقيط الغاضب، حتى مقتله ومحاكمة قاتله، لكنه عمل رغم طوله يجعل القارئ يعيش في الكراهية والحب والقسوة والرحمة والمشاعر المتعارضة والمتضاربة جذريا... إذن الرواية الطويلة جدا لها أصولها.
تماما مثل "البؤساء" رائعة فيكتور هوجو، تصل إلى 1500 صفحة، هي مجلد ضخم قبل أن تُختصر وتتحول إلى قصة قصيرة وأفلام ومسرحيات ومسلسلات... هي هكذا فرنسا المحبة للعدل والحرية، التي جعلت شخصية البطل جان فالجان على كل لسان، هذا المثالي الذي سرق خبزا وسُجن مدة عشرين سنة، فما مصير الابنة؟ هذه الرحلة الصحوة التي تتوغل في حقيقة المجتمعات المراوغة، تجدها مكررة في أغلب المجتمعات المتحضرة منها والمتخلفة، فهل التقدم والقانون حماية فعلية للإنسان؟ كل من قرأ هذه الرواية على طولها، أعادها مرارا، ومنهم من أصبح بعدها كاتبا ومبدعا، نظرا لآفاق أفكار صفحاتها الطويلة، بأفكارها المتدفقة...
إلى رواية أطول عنها وهي "جينجي" كتبتها امرأة تدعى "موراساكي شيكيبو، وفي مجلدين، تحفة اليابان في كل العصور، والتي يعتبرها أغلب النقاد والقراء بالعالم أنها من أوائل الروايات على الإطلاق، كتبتها هذه المرأة في القرن العاشر الميلادي، هي أشبه بملحمة عن الأسرة وتاريخ العادات، لكنها في أعماقها تأخذنا إلى الروح البشرية وجوهرها بين الكوميدي والمأساوي.
اقرأ أيضا: كل شيء هادئ على ضفة الشارع الأخرى
وبعيدا عن القسوة فإن رواية "النكتة اللانهائية" لـ ديفيد فوستر والاس، كتبها في بدايات القرن العشرين، مضحكة جدا، لكنها مكتوبة بحكمة كبيرة، وروح الدعابة، حول إدمان النزعة الاستهلاكية التي صارت إدمانية، لكننا ما زلنا نعيش هذا الاستهلاك اليوم الذي بات مخيفا في عماه، ليبقى الأدب الطويل الممتد، مهما رفضناه، أو اختصرنا فكرته، فإننا لا نستطيع اختصار تأملاته العميقة.