عند السادسة صباحا لمحتُ الشابين النحيلين وهما يعملان بنشاط متوتر على نصب طاولة كرتونية متوسطة الحجم. كنت في انتظار بائع الحليب الذي اصطدته قبل أيام يتجول وحيدا غير عابئ بأصوات انفجارات الصباح، يقود حماره وعربته الكارو الصغيرة. جلست أتأمل الشابين النشطين، وقد انتهيا من نصب الطاولة، ثم تحركا سريعا وجلبا من مكان قريب جوالَين أفرغا ما بداخلهما وبدآ في رصّ بضاعتهما القليلة. قلت في نفسي بينما هدير الطائرة المقاتلة بدأ يخترق الفضاء "هما إذا بائعا خضر جديدان على المكان".
ربما حدث هذا في اليوم العاشر، أو الثالث عشر لاندلاع الحرب. تداخلت الأيام عندي وبت أخلط الأشياء، لكني أتذكر جيدا الوقائع وما يحدث في كل يوم، لا سيما أحداث الصباح المبكر، وهي صغيرة لكنها لافتة، من مثل أن أصادف مجموعة صغيرة من الشمّاسة الصغار- المشردين – يستيقظون للتو من النوم، ويبدأون بغسل وجوههم من "الكولر" (الثلاجة) بالماء البارد، ويدفعون بأقدامهم الحافية قطع الكرتون التي كانوا ينامون عليها بجانب "الكولر" نفسه. نائمون في الشارع غير مبالين بالقصف أو بهجوم عصابات الليل، أو تحليق الطائرات المقاتلة. غسلوا وجوههم بالماء بالبارد وأول ما فعلوه بعدها، أخرجوا أكياس النايلون ورطبوها بـ"السلسيون" وبدأوا استنشاق المخدر ليبدأ غيابهم مبكرا عن كل ما يحدث ويدور. اشتعلت الحرب أم لم تشتعل، ما الذي يعنيهم وهم أصلا في حرب تميتهم وتقتلهم في اليوم ألف مرة!
ذات صباح آخر وجدت أحد الشابين يجلس وحيدا أمام محله المرتجل لبيع الخضر؛ الطماطم والجرجير والبطاطس والبصل الأخضر مبتلة بالماء وموضوعة بصورة أنيقة وجاذبة، أما الباذنجان فكان مكرمشا ومتقلصا في سبيله إلى الموات. عصر أمس ذلك اليوم، تفجرت دانة (قذيفة)، شظايا، قنبلة.. متفجرة ما قريبا من منزلنا، وأكد الكثيرون أنها سقطت فوق سطوح أحد المنازل المجاورة. الشاب بائع الخضر حكى لي القصة بالتفصيل، منذ تحليق الطائرة إلى تردّد: دوي المضادات، فهو موجود هنا يشاهد كل شيء. قال "نعم سقطت فوق ذلك البيت"، وأشار إلى بيت من طابقين لا يبعد كثيرا عن موقع جلستنا. كان يحكي ببرود وكنت أستمع ببرود، وأرى من بعيد بعض السكان يدخلون ويخرجون من البيت المقصود. هل تعوّد الناس على ما يحدث؟ لا أظن. لكن، من أين لهم هذه اللامبالاة، هل هو الخوف، أم الاستسلام للقدر المرصود؟
طالت جلستي مع بائع الخضر الشاب ولم يحضر أحد للشراء. سألته: "لماذا تبقى هنا، في مواجهة الحرب، وبإمكانك العودة إلى بلدتكم؟". كنت أعرف بلدتهم، في ولاية الجزيرة، على مسافة ساعة ونصف الساعة تقريبا من الخرطوم، وهي آمنة، وأكثر سكان الخرطوم نزحوا بالفعل إلى الجزيرة، صوب بلدته والبلدات المجاورة لها. قال باختصار: "لا يمكن أن أجلس دون عمل، أنا مسؤول عن أيتام وأم مريضة". سكتُّ ووجدتُني تلقائيا أعلّق بصري بأكوام الطماطم والليمون والجرجير والباذنجان الميت، وأشعة الشمس قد بدأت تضربها. ربما فهم في ما أفكر، أو ربما تلك هي الفكرة التي كانت تشغله وقتها، قال: "نعم، هنا لا نبيع جيدا، فهناك أكثر من بائع خضر قديم بالمكان". صمت لثوانٍ وأضاف: "لكن اليوم أو غدا الصباح، سنرحل إلى الضفة الأخرى للشارع. المكان هناك أهدأ ولا باعة منتشرون".