روسيا وأوكرانيا... حرب تبحث عن نهايةhttps://www.majalla.com/node/290701/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A3%D9%88%D9%83%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%AA%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D9%86%D9%87%D8%A7%D9%8A%D8%A9
لقد مضى أكثر من عام على بدء الأزمة الأوكرانية. وعلى الرغم من ذلك، لا تسوية تلوح في الأفق، بل على العكس تتنبأ الوثائق المُسربة الصادرة مؤخرا عن البنتاغون بأنه لن يحصل أي تحرك باتجاه تسويةٍ سياسية هذا العام.
وفي غضون ذلك، فإن الموقفين الروسي والأوكراني آخذان في التعنّت. إذ تُواصل أوكرانيا إعلان التزامها بمواصلة الحرب حتى "تستعيد كل الأراضي التي خسرتها منذ عام 2014 أمام روسيا، وهي تتلقى في ذلك دعم الولايات المتحدة وحلفائها في تلك الحرب".
في المقابل، يبدو أن روسيا ماضية في عزمها على تحسين موقفها على الأرض ولم تُظهر أدنى اكتراثٍ بإنهاء الحرب في وقت وشيك. واكتفت بتكرار القول بأنها لا تزال مستعدة للمفاوضات.
وصفت الولايات المتحدة الصراع بأنه تحدٍ عالمي يضع الديمقراطيات في مواجهة مباشرة مع الأنظمة الاستبدادية، وهي تواصل ضخ المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى أوكرانيا لضمان استمرارها في الحرب. ويأمل الأوروبيون أن تأتي روسيا في نهاية المطاف إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط العقوبات المتنامي.
من جهة أخرى، ألمحت الصين إلى أنها لن تسمح بهزيمة روسيا، لكنها لن تقبل أيضا بحالة يكون فيها الصراع مفتوحا. فإذا أضفنا هذا التلميح الصيني إلى عزم الصين توفير أسلحة فتاكة لروسيا، لأمكننا تفسيره كمؤشّر على نفاد صبر بكين المتزايد من الوضع الحالي ونيتها التوسط في مرحلة ما من الصراع.
ولا تريد بقيةُ دول العالم، وهي التي تعاني من عواقب الحرب الاقتصادية، الانحياز إلى أي طرف من طرفي الصراع، وهي ترغب عموما في التوصل إلى تسويةٍ مبكرة.
ألمحت الصين إلى أنها لن تسمح بهزيمة روسيا، لكنها لن تقبل أيضا بحالة يكون فيها الصراع مفتوحا. فإذا أضفنا هذا التلميح الصيني إلى عزم الصين توفير أسلحة فتاكة لروسيا، لأمكننا تفسيره كمؤشّر على نفاد صبر بكين المتزايد من الوضع الحالي ونيتها التوسط في مرحلة ما من الصراع.
هل من آفاق لإنهاء الصراع؟
إن السؤال الذي يستدعي الإجابة عليه هو: لماذا يواجه التوصل إلى تسوية صعوبة حتى الآن، وما هي احتمالات التوصل إلى تسوية؟
أولا، لم تنتفِ الأسباب التي حملت روسيا على التدخل عسكريا في أوكرانيا. بل هي على العكس من ذلك تعززت، وأصبحت موسكو الآن أكثر اقتناعا بأن الغرب عازم على إضعاف الدولة الروسية. وقد تجلى هذا بوضوح في وثيقة "مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي" الذي صدر في 31 مارس/آذار 2023.
ثانيا، شدّد الطرفان على الطابع الأيديولوجي للنزاع. فبالنسبة للغرب، هو في خضم حالة صراع بين "الأنظمة الاستبدادية (روسيا) والديمقراطيات (الغرب وحلفائه)" وهو ما عُرض بوضوح في استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن الصادرة في أكتوبر/تشرين أول 2022.
أما بالنسبة لروسيا، وكما يظهر على نحو جَلِيٍّ في مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي، فإن النزاع يدور في واقع الأمر حول سعي الولايات المتحدة وحلفائها لــ"... إضعاف روسيا بكل السبل الممكنة، بما في ذلك تقويض دورها الحضاري البنّاء ...." بعبارة أخرى، يشكّل الوضع في أوكرانيا تهديدا وجوديا لروسيا. ويخبرنا التاريخ أن الحروب الأيديولوجية هي أكثر الحروب ديمومة.
لا يمكن لروسيا أن تتحمل الهزيمة. كما أنه لا يمكن لها بكل تأكيد التخلي عن شبه جزيرة القرم. ولا يمكنها أيضا الانسحاب من الجسر البري الذي يربط شبه جزيرة القرم بالبر الرئيسي لروسيا. وفيما يخص إقليم الدونباس، وفي حين أن روسيا ربما ليست قادرة على ضم الإقليم بأسره كما خططت له في الأصل، فإنها ستحاول الاحتفاظ بالأراضي التي تسيطر عليها الآن. أخيرا، سيتطلب الأمر تقديم ضمانات بالسلامة وبالأمن وبالحقوق الثقافية للناطقين بالروسية في المنطقة. وهذه مهمة طويلة الأجل ولا يمكن تحقيقها على المدى القصير.
بينما يرتكز النموذج السياسي الغربي على انتشار السلطة، ويرتكز على نظام من الضوابط والتوازنات، وعلى نظرة براغماتية، فإنه لا يمكن لأي شخص مطلع على التاريخ الروسي أن يتجاهل حقيقة أن العقلية الروسية تمتلك خصائص ثابتة تنعكس في النظام السياسي الروسي: الإيمان بالاستثناء وقبول السلطة المركزية والرهاب الأمني الناجم عن حقيقة أن روسيا، على مر القرون، قد غزاها الغزاة من جميع الأنحاء.
هذه الخصائص هي المسؤولة إلى حد كبير عن التنافس المتقطع بين روسيا والغرب. وجاءت الأزمة الأوكرانية لتزيد من شعور موسكو بالضعف ولتعزز حاجتها إلى إعادة هيكلة البنية الأمنية الأوروبية وتسرع التحرك نحو نظام دولي متعدد الأقطاب. لذا فإن الأزمة الأوكرانية هي أكثر من مجرد أزمة لأوكرانيا. إنها بمنزلة مفتاح لمكانة روسيا في الفضاء الأوروآسيوي، وهو أمر أساسي لأمنها القومي ومكانتها الدولية.
شدّد الطرفان على الطابع الأيديولوجي للنزاع. فبالنسبة للغرب، هو في خضم حالة صراع بين "الأنظمة الاستبدادية (روسيا) والديمقراطيات (الغرب وحلفائه)" وهو ما عُرض بوضوح في استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن الصادرة في أكتوبر/تشرين أول 2022.
شعبية بوتين في روسيا
وفي غضون ذلك كله، لا يزال الرئيس بوتين يتمتع بشعبية كبيرة في روسيا. ويبدو أن الحكومة الروسية قد نجحت إلى حد كبير في حماية سكان المدن الرئيسة على الأقل من تأثير العقوبات. فلا تزال الضروريات الأساسية للحياة متوفرة، بما في ذلك واردات الأغذية الطازجة التي تأتي من مصادر متعددة بما في ذلك تركيا وإيران وآسيا الوسطى. وحتى أن البضائع الأوروبية التي يُفترض أنها محظورة هي في واقع الأمر متوفرة في السوق الروسية، إذ تشق طريقها عبر وسطاء في بلدان القوقاز وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
ويتصف الوضع الاقتصادي في روسيا بالصمود أيضا، على عكس التوقعات التي تنبأت في بداية الحرب بانهيار الاقتصاد الروسي. إذ توقعت التقديرات انكماش الاقتصاد الروسي بنحو 15 بالمئة في عام 2022. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن الناتج المحلي الإجمالي الروسي انخفض بنسبة 2.2 بالمئة فقط في عام 2022 ويتوقع أن يكون الأداء أفضل في عام 2023، حيث سيعاني من انخفاض بنسبة 0.3بالمئة فقط. وبينما ينهار الوضع، فقد شهدت التجارة مع الاقتصادات الرئيسة خارج العالم الغربي زيادة كبيرة، خاصة التجارة التي تجري مع دول البريكس.
لقد عوضت التجارة مع البريكس عن انخفاض طلب الأوروبيين على النفط والغاز الروسي عن طريق بيع المزيد منه إلى الصين والهند. وعندما تبدأ أثار العقوبات في الظهور، خاصة عندما يتعلق الأمر بتوافر الرقائق الدقيقة الضرورية لإنتاج الأسلحة الروسية، سيكون من الصعب التنبؤ بتأثير تلك العقوبات على الاقتصاد الروسي.
وأثبتت أوكرانيا بالدليل القاطع قدرتها على الصمود. وبدعم حاسم من الغرب، فاق أداء الجيش الأوكراني كل التوقعات وتمكن من صد الهجمات الروسية. ولقد تمكن الأوكرانيون في الواقع من استعادة جزء من الأراضي التي خسروها في المرحلة الأولى من الحرب. وعلاوة على ذلك، فإن الجبهة الداخلية قد صمدت بحزم، وهو الأمر الذي يثبت أن القومية الأوكرانية ما زالت تنبض بالحياة.
أما الولايات المتحدة، فقد أوضحت بجلاء أن هدفها يتمثل في إضعاف روسيا إلى حد كبير كيلا تشكل تهديدا على جيرانها من الغرب. ولكن، غايتها الحقيقية ليست واضحة في حقيقة الأمر. إذ أوضح رئيس الأركان الأميركي كيلي أنه لا يعتقد أن بوسع أوكرانيا كسب الحرب، بمعنى استعادة الأراضي التي خسرتها لصالح روسيا.
وفي هذه الأثناء، لا يزال النظام الدولي متقلبا في وقت تتنافس فيه كل من الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى لضمان مكانة مميزة لهما. وتشعر بقية دول العالم بالقلق إزاء ما يبدو أنه مواجهة طويلة الأمد تذكرنا بالحرب الباردة، على الرغم من أنه جرى خوض الحرب هذه المرّة بأسلحة مختلفة، جُلّها أسلحة اقتصادية، وبالتالي حملت معها تأثيرا مباشرا أكبر على دول الجنوب.
لم يبذل أحد حتى الآن أي جهد جاد للوساطة بين الموقفين المتشددين لكل من روسيا وأوكرانيا. وبينما أبدت عدة دول استعدادها للوساطة، وكان آخرها البرازيل، فإن الدولة الوحيدة التي لديها نفوذ كاف لأداء مثل هذا الدور هي الصين، ولا يزال يتعين عليها أن تبدي موقفا أقوى في هذا الصدد. ما فعلته الصين حتى الآن هو الإشارة فقط إلى استعدادها للقيام بالوساطة، لكنها ربما تنتظر اللحظة المناسبة والحلفاء المناسبين للشروع في هذا المسار المعقد المحفوف بالعديد من المخاطر.
هل وصلت الأزمة إلى طريق مسدود؟
ويبدو الوضع السائد أنه وصل إلى طريق مسدود، ومع ذلك ثمّة مؤشّرات أيضا على أن ذلك يتغير، فهناك تلميحات إلى أن الدعم الغربي لأوكرانيا قد يتآكل، وهناك بالمقابل شكوك باقية حول المدة التي يمكن لروسيا أن تستمر فيها الحرب.
ويبدو أن التعب يزحف في الولايات المتحدة، وقد يتضاءل التأييد الشعبي للحرب في ظل عدم تحديد مآل هذه اللعبة في النهاية حقا. أضف إلى ذلك تعاظم الشكوك حول القدرة على توفير الأسلحة بالحجم المطلوب لمواصلة الحرب. لقد رأينا بالفعل علامات على ذلك عبر الطيف السياسي، وخاصة بين الجمهوريين.
بالإضافة إلى ذلك، مع اقتراب دورة الانتخابات من نهايتها بالسرعة القصوى، سيكون هناك ضغط متزايد على الرئيس بايدن لتوضيح معنى كل ما يجري في أوكرانيا وكيف سينتهي. وقد يضطر بايدن إلى القيام بذلك بحلول الخريف المقبل، لأن فشله في القيام بذلك بحلول ذلك الوقت سيحدّ بشدة من قدرته على المناورة بعد ذلك، مما سيجبره على التشدّد في موقفه بدلا من البحث عن حل. بعد كل شيء، لا يود أي رئيس حالي أن يُنتَقَد لخسارته (أوكرانيا) أمام روسيا.
لم يبذل أحد حتى الآن أي جهد جاد للوساطة بين الموقفين المتشددين لكل من روسيا وأوكرانيا. وبينما أبدت عدة دول استعدادها للوساطة، وكان آخرها البرازيل، فإن الدولة الوحيدة التي لديها نفوذ كاف لأداء مثل هذا الدور هي الصين.
وهناك أيضا مخاوف في كل من الولايات المتحدة وأوروبا من أن أوكرانيا ستحتاج إلى المزيد من الأسلحة، وأفضلها، لمقاومة أي هجمات روسية أخرى، إذا استمر النزاع. ما يعني أن الحرب ستؤدي إلى تآكل الاستعداد العسكري للغرب واستنزاف مخزوناته من الأسلحة. ويبدو أن القاعدة الصناعية الدفاعية لا تستطيع مواكبة إنفاق أوكرانيا على المعدات والذخيرة.
لا يزال الوضع في أوروبا غير قابل للتنبؤ. أتاح الشتاء الدافئ للأوروبيين الابتعاد عن الاعتماد على الغاز الروسي. ولكن على نحو متزايد، تُظهر الدول الأوروبية قلقا متزايدا بشأن وضعها الاقتصادي غير المستقر، ولكن أيضا القلق بشأن استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا دون أن يبدو في نهاية النفق أي ضوء. ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا القلق سيترجم إلى ضغط لمتابعة حل سياسي في أوكرانيا.
من جانب آخر، على الرغم من أن أداء روسيا الاقتصادي قد يتحسن، فإن موسكو قد تواجه خيارات وقرارات صعبة. فلمواصلة الحرب، ستحتاج إلى مزيد من التعبئة، وهو قرار يفضل الرئيس بوتين تجنبه. والأخطر أنه مع انخفاض المعروض من الرقائق الدقيقة، فإن إنتاجها الصناعي، وخاصة العسكري، سوف يعاني صعوبات حقيقية، مما سيضيّق على الشعب ويقلص قدرة الجيش على مواصلة الحرب.
باختصار، روسيا والغرب قد يقتربان من موقف سيكون فيه ثمن إنهاء الأعمال العدائية أكبر من التزامهما باستمرار الحرب قائمة حتى النهاية. وفي ظل هذه الظروف ومع عدم رغبة كل من روسيا وأوكرانيا في دفع الثمن السياسي للتسوية، ستكون النتيجة الأكثر احتمالاً مماثلة للسيناريو الكوري. خطوط تماس مجمدة وهدنة ومنطقة منزوعة السلاح على طول خطوط التماس، من دون وجود عملية سياسية.
وسيتم تأجيل تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي ستكون كل من روسيا وأوكرانيا مستعدين للتعايش معها لبعض الوقت في المستقبل. كما أن العلاقة بين روسيا والغرب، بما في ذلك مسألة الأمن الأوروبي، ستنتظر يوما آخر، في المستقبل البعيد.