لم تكن أزمةً عابرة تلك التي حدثت في الولايات المتحدة خلال انتخابات الرئاسة في 2020، بخلاف ما بدا حينها. ما يجرى الآن على صعيد الاستعداد لانتخابات 2024 يدل على أنها أزمة مُعقدة ومُركبة وليست سهلةً وبسيطة.
وقد يزداد خطرها إذا مضت الأمور باتجاه إعادة إنتاج انتخابات 2020، وهو ما يزداد احتماله بعد إعلان الرئيس الحالي جو بايدن الأسبوع الماضي ترشحه لفترة ثانية، وتقدم الرئيس السابق دونالد ترامب حتى الآن على منافسيه المحتملين في السباق التمهيدي الذي لم يبدأ رسميًا بعد في الحزب الجمهوري.
بايدن وترامب وجهًا لوجه مرة ثانية. هذا سيناريو غير مستبعد، بل ربما يكون مرجحًا بما يحمله من دلالة على عجز الحزبين الكبيرين عن ضخ دماء جديدة في شرايين النظام السياسي. وهذا وضع لا يسمح، منطقيًا، بأن تقدم واشنطن دروسًا لغيرها في الديمقراطية أو تُنظَّم مؤتمرات عالمية حولها على النحو الذي فعلته إدارة بايدن مرتين كان آخرهما في مارس/آذار الماضي، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
بايدن وترامب وجهًا لوجه مرة ثانية. هذا سيناريو غير مستبعد، بل ربما يكون مرجحًا بما يحمله من دلالة على عجز الحزبين الكبيرين عن ضخ دماء جديدة في شرايين النظام السياسي.
جمود وترهل
الانفصال المتزايد بين النخب السياسية والجمهور على المستوى العام، وبين المستويات التنظيمية العليا والدنيا في الحزبين الكبيرين، هو العنوان الرئيس لأزمة الديمقراطية الأميركية اليوم.
ترهل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، الذي بدأ قبل نحو ثلاثة عقود، يبلغ ذروةً جديدة. يزداد اتجاه النخبة الحزبية في كل منهما إلى إعادة تدوير نفسها في مواقع مختلفة، بدل فتح الباب أمام أجيال جديدة تُحبس طموحاتها في إدارات الولايات ومجالسها التشريعية، ويُدمج الأكثر نجاحًا في مواقع تنفيذية صغيرة ومتوسطة في الإدارة الفيدرالية حين يفوز مرشح هذا الحزب أو ذاك في الانتخابات الرئاسية.
وليس مستغربًا، والحال هكذا، أن يصبح كلا الحزبين مرهوناً برئيس حالي أو سابق يزداد احتمال أن يكونا هما من سيتنافسان في الانتخابات الرئاسية مرة أخرى. كما أنه ليس مدهشًا، في مثل هذا الوضع، أن تتوسع فجوة عدم الثقة، ويزداد إحجام قطاعات من الأجيال الجديدة عن المشاركة السياسية عمومًا، وليس عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع فقط.
وحدة بلا تنوع
يرتبط ازدياد ترهل الحزب الديمقراطي في السنوات الأخيرة بدعوة تلقى قبولاً إلى التوحد في مواجهة "الترامبية". وسعي أي حزب للحفاظ على وحدته أمر طبيعي، ومحمود أيضًا.
ولكنه قد لا يكون كذلك حين تكون الوحدة على حساب التنوع والتعدد، ومن ثم تؤدي إلى حالة "الكل في واحد" التي تقوم عليها النظم الشمولية، ولكن في صورة أخرى بطبيعة الحال.
ويساعد على ذلك أن الرئيس الحالي، الذي أُعيد ترشيحه، يُعبَّر عن الاتجاهين الرئيسيين في الحزب. فهو ينتمي أصلاً إلى تيار الوسط الغالب فيه، ومنفتح على تيار اليسار في الوقت نفسه. ولهذا تلقى إعادة ترشحه قبولاً بدرجات متفاوتة رغم وجود مخاوف بشأن قدرته على خوض حملة ناجحة في انتخابات تُجرى في ظروف صعبة، وبعد أن ظهرت نقاط ضعفه بوضوح منذ دخوله البيت الأبيض وتسليط الأضواء عليه.
ولا يخلو من مغزى مهم عدم تقدم أي من العناصر البارزة في الأجيال الجديدة لمنافسة بايدن على ترشيح الحزب الديمقراطي في انتخابات 2024. فقد دُمج أبرز من نافسوه في تمهيديات 2020 داخل إدارته، وفي مقدمتهم بيت بوتجيج، وكمالا هاريس، فيما لا يجد حكام الولايات من الأجيال الجديدة فرصةً للظهور على المستوى الفيدرالي، مثل جافني نيوسوم، وغريتشين ويتمر.
ورغم انتماء روبرت كنيدي جونيور، الذي تقدم لمنافسة بايدن في التمهيديات، إلى عائلة سياسية كبيرة، فقد أضعفته حملاته المبالغة ضد اللقاحات، وآراؤه الشمولية في الطب.
ترهل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، الذي بدأ قبل نحو ثلاثة عقود، يبلغ ذروةً جديدة. يزداد اتجاه النخبة الحزبية في كل منهما إلى إعادة تدوير نفسها في مواقع مختلفة، بدل فتح الباب أمام أجيال جديدة.
الولع بالأقوياء
يؤدي الولع بالقوة والقدرة على "صرع" الآخرين في قطاعاتٍ يُعتد بها من الحزب الجمهوري الوظيفة نفسها التي تقوم بها الدعوة إلى التوحد في الحزب الديمقراطي. إنها ثقافة "الكاوبوي" في نسخة حديثة تلك التي تجعل ترامب القوي الذي يقهر خصومه مُفضَّلاً في بعض أوساط الحزب الجمهوري.
تبدو فرصة منافسه المحتمل الأول حاكم فلوريدا، رون دي سانتيس، ضعيفة مثل شخصيته التي تجعله باهتًا حين يُقارن بترامب في هذه الأوساط. وقل مثل ذلك عن مندوبة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة، نيكي هايلي، التي أعلنت ترشحها لخوض السباق التمهيدي ضد ترامب.
ورغم أن مايك بنس نائب الرئيس السابق يبدو قويًا، فهو لا يستطيع مجاراة ترامب في قدراته الهجومية وعنفه اللفظي. وهذا فضلاً عن أن ترامب سيتعمد التعامل معه باعتباره تابعًا إذا قرر منافسته، وسيروي في لقاءاته الانتخابية قصصًا عن العلاقة بينهما حين كانا في البيت الأبيض.
غير أنه ما كان للولع بالقوة أن يفعل فعله على هذا المستوى إلا لأن الحزب الجمهوري ترهل في العقود الأخيرة. وإذا كان ابن رئيسٍ سابق قُبِل كمرشح لهذا الحزب قبل ما يقرب من ربع قرن، فما وجه الغرابة في أن يُقبل ترشيح الرئيس السابق الآن.
لا يخلو من مغزى مهم عدم تقدم أي من العناصر البارزة في الأجيال الجديدة لمنافسة بايدن على ترشيح الحزب الديمقراطي في انتخابات 2024. فقد دُمج أبرز من نافسوه في تمهيديات 2020 داخل إدارته، وفي مقدمتهم بيت بوتجيج، وكمالا هاريس.
مُهرِمان ينشدان أصوات الشباب
عندما أعلن بايدن ترشحه لفترة ثانية، كان قد اقترب من عامه الحادي والثمانين الذي يكمله في 20 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. ويعني هذا أنه سيكون في الثانية والثمانين بالتمام عندما يحل موعد انتخابات 2024، وفي السادسة والثمانين خلال سنته الأخيرة في البيت الأبيض إذا فاز وبقي فيه. ترامب مُهرم أيضًا مثل بايدن. سيكون قد تجاوز عامه الثامن والسبعين يوم الاقتراع، والثاني والثمانين عند مغادرة البيت الأبيض إذا فاز.
والمهم أنهما يتنافسان على أصوات الشباب في "الجيل Z"، الذين سيصل عدد إضافي منهم إلى سن الاقتراع في نوفمبر/تشرين الثاني 2024. يضم هذا الجيل، المولود أبناؤه بين منتصف التسعينات وآخر العقد التالي، أكبر عدد من المستقلين عن الحزبين. والناخبون المستقلون في مجملهم أكثر عددًا من الناخبين التقليديين لكل حزب على حدة، إذ تبلغ نسبتهم نحو 40 في المئة.
وهم من أسهموا في فوز بايدن في انتخابات 2020. وكان دورهم أكبر في انتخابات التجديد النصفي في 2022، إذ حال انحياز أهم منظماتهم الاجتماعية ومشاركة عدد كبير منهم دون اكتساح الحزب الجمهوري مجلسي الكونغرس وحدوث موجة حمراء كانت متوقعة.
مواقف بايدن تجاه قضايا عنف السلاح والمناخ، وكذلك الإجهاض، أقرب إلى الاتجاه الغالب في أوساط "الجيل Z". وهذا يفسر تحفظ ترامب في حديثه عن هذه القضايا منذ إعلان ترشحه لخوض السباق التمهيدي في حزبه، لكي يتمكن من صوغ موقف تجاهها لا يستفز قطاعًا واسعًا في هذا الجيل في حملة الانتخابات الرئاسية.
بايدن وترامب، إذن، هما خير تعبير عن حال نظام حزبي ترهل، ونظام سياسي شاخ وتجمد وفقد الكثير من ديمقراطيته التي أسهمت في صعود الولايات المتحدة إلى قمة النظام العالمي. ومع ذلك يتمسك بإعطاء دروس بشأن ديمقراطيةٍ فَقَدَ بعض أهم مقوماتها.