وأعني بالذين يتقدّمون الأوروبيين والأميركيين واليابانيين والصينيين والذين يتخلّفون أعني بهم العرب والمسلمين، في معظمهم. والسؤال قديم عمره أكثر من قرنين بدأه أصحاب مشاريع النهضة وعمّقه شكيب أرسلان (1869- 1946) في كتابه "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟" وأعاد المفكّر اليمني محمد علي لقمان (1898-1966) طَرْحه في كتاب آخر "بماذا تقدم الغربيون؟" بمقدمة من أرسلان نفسه! ولكن بصياغة أكثر حداثية تتجاوز أطروحات أرسلان السلفية والأخلاقية؛ ولقد تعدّدت الإجابات عليه إلا أنّ المعنيين به اكتفوا بترديد السؤال والبعض الآخر كرّس، من موقعه، هذا التأخر ولم يعبأ بالسؤال أو بالجواب!
وصف الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي (1863-1936) هذا الحال بالقول "إنّ اليهود أصابوا من التجارة مالا/ وللنصارى مكانٌ من الرقي تعالى/ والمسلمون تراهم بكل أرض كسالى".
وإن كان أرسلان لا يقول بالتقدّم والتخلف على إطلاقهما وينوه إلى تفوّق المسلمين في البوسنة والصين وروسيا على غيرهم من المجاورين في السكن إلا أنّه لا يختلف عن بقية المصلحين في رؤية تراجع المسلمين في معظم البلدان.
ورأى لقمان ما يشبه حال اليوم فقال إنك إذا ذكرت للفقيه أهل المرّيخ، قال: أستغفر الله، وإذا ما نطقت بنظريّة داروين استعاذ بالله من الكفر. وهو ما ذكّره بقيام الكنيسة على كريستوف كولمبوس عندما أعلن عزمه على اكتشاف أمريكا إذ وجد القساوسة أن ذلك مخالف لقواعد كتبهم الدينية، وقد سمع قوما يرون كفرا القول بدوران الأرض حول الشمس رغم جميع الشواهد التي لا تقبل النقض.
لهذا تحسّر لقمان وهو يقول: "إذا أردت أن تبكي على العرب فابكِ عليهم بملء عينيك، فأما أن يقوموا اليوم وإما أن لا يقوموا أبدا".
ولكن، لندع البكاء إلى حين؛ ونرى لماذا تقدّموا؟
يتفق المصلحون والنهضويون الأوائل على جملة من عوامل التقدّم كنظام التعليم المبني على أسس علمية وتخصّصية، ومشاركة المرأة في التعليم والعمل، ونبذ الخرافات والخزعبلات، والتخطيط والتنظيم الدقيق للوقت والأعمال
حين ذهب رفاعة الطهطاوي (1801-1873) إلى باريس قبل ما يقرب من مائتي سنة نقل في كتابه "تخليص الابريز في تلخيص باريز" المادة الخامسة من الدستور الفرنسي التي تنص على أن "كلّ إنسان موجود في بلاد الفرنسيس يتبع دينه كما يحب، لا يشاركه أحدٌ في ذلك، بل يُعان على ذلك، ويُمنع مَنْ يتعرّض له في عبادته".
وهو ما نوّه إليه لقمان حين تحدّث عن أهمية القوانين والنظم كالدستور البريطاني في تقدّم المجتمع، وكذلك الحرّيات الفكرية التي كانت سبباً في إنقاذ أوروبا، والتوجه السياسي بناء على التقاء المصالح بين الأمم الأوروبية، وخضوع الحكومات لإرادة الشعوب.
ويرى أن المصالح العامة تتغلّب على أي اختلافات، فقد نرى إنكليزيين يحتدم الخصام بينهما في البرلمان والمجالس السياسية لاختلافهما في المبادئ، ولكنّهما يعودان إلى الصفاء والوفاء بعد مغادرة تلك المجالس بخلاف ما هو حاصل بين أهل بعض المذاهب الإسلامية.
والأوروبي حقّق التقدّم، حسب لقمان، لأنه خرج من قيود الماضي إلى ميادين العلم والعمل، فتعلّم اللغات على اختلافها، وأخذ الحكمة أنى وجدها، ونشر العلم وعظّم رجاله، وكرّم أبطال التاريخ واحترم النظريات العلمية، وخلع رداء الجمود.
ويتفق المصلحون والنهضويون الأوائل على جملة من عوامل التقدّم كنظام التعليم المبني على أسس علمية وتخصّصية، ومشاركة المرأة في التعليم والعمل، ونبذ الخرافات والخزعبلات، والتخطيط والتنظيم الدقيق للوقت والأعمال والأشياء، وتعلّم اللغات الأجنبية والتي عبرها يكون التعرّف على العلوم الحديثة، إضافة إلى الحرّيات العامة وحرّية الصحافة والأحزاب.
ولا يغفلون حتى الرياضة التي أدت إلى تنشيط الأوروبي وتحسين عمله وتشجيع الفنون بمختلف توجهاتها.
أنا من مدمني متابعة الأخبار العلمية والاكتشافات، حيث الابتكارات والاضافات في الحاسوب والإنترنت والسيارات والطائرات والأدوية والكيمياء والفيزياء، وأتأسف كلّ يوم أن ليس هناك أي خبر يأتي من العالم العربي، أو الإسلامي، غير خبر ظهور جنرالات وشيوخ تكفير وفتاوى ضد كل ما ينتمي للحياة، وفي كل حال أسأل لماذا يتقدّمون ونتأخر؟
لقد أمضينا كلّ هذا الدهر عبارة عن مستهلكين في حين ظل الغربي، كما يشير لقمان في زمنه، ينافس الأمم في حاصلات بلادها الطبيعية كبيعه الصباغ لليمن، "وكأنه والحال كذلك يكاد يصدِّر التمر إلى البصرة والقطن إلى مصر!".
فهل يستوعب العرب والمسلمون ما أتى به المصلحون الأوائل من حلول لمواكبة تطور البلدان المتقدّمة أم سيظلون يدورون داخل الدائرة نفسها، في مسرح معاد يظهر فيه المستبدون وحدهم؟