بيروت: قبل مئة سنة، في مثل هذا اليوم 4 مايو/ أيار من العام 1923، ولد مؤسس الأغنية اللبنانية الحديثة ورائدها بصوت المغنية فيروز في مطلع خمسينات القرن العشرين: عاصي الرحباني، الذي ولد أخوه الأصغر وتوأمه الفني منصور سنة 1925، في قرية أنطلياس الساحلية على مسافة 8 كلم شمال بيروت.
نجومية باهرة وأليمة
الركن الثالث في نواة "المؤسسة الفنية الرحبانية - الفيروزية" الرائدة في الخمسينات، أي نهاد حداد التي سميت فيروز، تتضارب الروايات في تعيين مكان ولادتها سنة 1935. وكذلك الروايات عن أصل والدها وديع حداد، قبل وفادته إلى لبنان:
- بعض الروايات الصحافية تقول إنه سرياني كاثوليكي من قرية فلسطينية في جوار الناصرة.
- أخرى تعيده إلى مدينة حلب السورية، أو إلى المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا.
- ثالثة تعرّج به إلى بلاد حوران جنوب سوريا.
- رابعة تقول إنه أرمني هرب من مجازر الأتراك بالأرمن في الحرب العالمية الأولى وبعدها.
لكنّ الأكيد أن الرجل حلَّ في الديار اللبنانية مهاجرا، شأن أفراد وعائلات وجماعات مشرقية مسيحية كثيرة غالبا ما توافدت إلى لبنان وبيروت، حيث وجدت "ملاذا آمنا"، وفق "الأدبيات اللبنانية". ومنها كتابات ميشال شيحا (1891- 1954) الآشوري الكلداني العراقي الأصل، قبل وفادة والديه إلى العاصمة اللبنانية، ومشاركته في وضع أسس دستور دولة لبنان الحديثة.
تزوج وديع حداد من اللبنانية المارونية ليزا البستاني، ابنة قرية الدّبيّة على ساحل جبل لبنان الجنوبي. وتتضارب الروايات حول مكان إقامة الزوجين وولادة ابنتهما البكر نهاد. الأكيد أن لأسرة فيروز بيتا عتيقا خربا في الدبيّة، يذكِّر بتلك الأيام الخوالي للريف اللبناني و"حضارته" الزائلة المندثرة. والأرجح أن المخرج السينمائي المصري واللبناني الأصل يوسف شاهين (1926- 2008) استمد من بيوت الدبية ديكور فيلم "بياع الخواتم" الرحباني - الفيروزي الذي أخرجه وعُرض سنة 1964. وكانت الطفلة والصبية نهاد حداد قد عاشت طفولتها وصباها في غرفة متواضعة من منزل تراثي الطراز المعماري في محلة زقاق البلاط البيروتية، حيث تعلمت في مدرسة رسمية للبنات. وكانت منشدة في جوقتها التي أنشأها مدرّس الموسيقى البيروتي محمد فليفل (1899- 1985) الذي أدخلها منشدة كورس في الإذاعة اللبنانية أواخر الأربعينات. وفي الإذاعة عينها التقت الشاب عاصي الرحباني الذي كان يعمل عازفا وملحنا فيها.
وكان والد فيروز عامل مطبعة متواضعا. وفي ذاك المنزل التراثي العتيق توفي قبيل حروب لبنان الأهلية (1975). وتحدثت الصحف آنذاك عن تخزينه في منزل وحدته المهجور أكداسا من مجلات فنية نشرت أخبارا وتحقيقات عن "أمجاد" ابنته. كأنه أدمن جمعها في عزلته وانقطاعه وشيخوخته كمقتنيات متحف شخصي يكنّي عن اعتزازه الأليم بابنته. بالهالة النجومية الجماهيرية الباهرة والمعبودة التي اكتنفت شخصيتها وصورها، فجعلتها غريبة عنه غربة طبقية واجتماعية وثقافية أليمة. وحتى اليوم لم تتحقق القرارات والدعوات الكثيرة التي أرادت تحويل ذاك المنزل التراثي العتيق المهمل في زقاق البلاط متحفا فنيا "لأمجاد" فيروز: "سفيرة لبنان إلى النجوم" والذي هوى أخيرا من سموات الأحلام والأوهام والحنين إلى قيعان البؤس والخواء والشقاء.