كانت سنة 1562 حاسمة في تاريخ أوروبا. كانت تلك سنة اكتشاف نصوص سيكستوس أمبريكوس التي حفظت تراث الشكوكية البيرونية، فعادت من جديد مع النهضويين ثم في العصر الحديث.
لا شيء استثنائيا في سيكتوس الذي عاش في القرن الثاني الميلادي سوى كونه حافظا لتراث فلسفي، أما بيرون فقد كان استثنائيا. على وجه التقريب لا الدقة، عاش بيرو أو بيرون ما بين (360 – 270) قبل الميلاد. وهو من آباء الشكوكية الكبار في التاريخ الفلسفي، ويعتبره بعضهم مؤسس مذهب الشك، رغم أنه لم يكتب قط، ورغم أن ما نُسب إليه لا يختلف عما نسب إلى بعض السفسطائيين في القرن الخامس قبل الميلاد، من القول بالنسبية المعرفية، بالإضافة إلى تبنيه نظرية أرسطبوس في المعرفة، وهو مذهب يقترب من النزعة المادية الحسية كما هي عند ديمقريطس.
تخبرنا المصادر الكلاسيكية أن بيرون سافر مع الإسكندر الأكبر وجيشه إلى شمال غرب الهند، وخلال الإقامة هناك، التقى بيرون ومعلمه أناكسارخوس علماء الهنود "الحكماء العراة"، ويقال إن فلسفة بيرون تطورت نتيجة لمثل هذه اللقاءات. وعندما عاد من الهند، قيل إنه علّم الأخلاق الفلسفية، بمعنى كيف نعيش حياة أفضل وأسعد، من خلال اللا مبالاة، وأن نكون بلا شغف، وأن نعيش الأتاراكسيا، أي راحة البال. هذه المُثل تتكوّن ابتداء بسبب الشك في المعرفة المكتسبة من خلال الإدراك الحسّي والفكر. بدلا من الاعتقاد بأننا قد نكون قادرين على تحقيق اليقين، يجب علينا الامتناع عن هذا الاعتقاد وعن كل الآراء، مع الحفاظ على رباطة الجأش وإغلاق الباب في وجه القلق.
ورغم أنه لم يكتب شيئا إلا أن تلميذه تيمون كان يملك قدرا كافيا من الحماس لنقل علوم الأستاذ، وليسخر من الفلاسفة، لا يستثني منهم أحدا، إلا أستاذه وزونوفان.
وتشكك بيرون في قدرة العقل على الولوج إلى طبيعة الأشياء وعمقها الذي يختفي خلف المظاهر، ذلك السر الذي لطالما تاقت إليه نفوس الفلاسفة والعلماء. الأشياء، بالنسبة إلى بيرون، هي ظاهرها فحسب، لأننا لا نستطيع أن نتجاوز هذه المعرفة. إنه نقيض إيمانويل كنْت، ولا يخلو من إشارة إلى أن كل الفلاسفة كانوا مشغولين بالشك، وكيفية الخروج منه، أو على الأقل تحديده.
الأشياء، بالنسبة إلى بيرون، هي ظاهرها فحسب، لأننا لا نستطيع أن نتجاوز هذه المعرفة. إنه نقيض إيمانويل كنْت، ولا يخلو من إشارة إلى أن كل الفلاسفة كانوا مشغولين بالشك، وكيفية الخروج منه، أو على الأقل تحديده
المظهر يبدو مختلفا في صورته من فرد لآخر ولا ندري أيّ الصورتين هو الصواب، وبناء على هذا التباين في التصوّر فإن ما نقرّره يمكن أن يقابل بتقرير نقيض لا يقلّ عنه قوة، ولذلك كان من الحكمة أن نلتزم بالأبوخية التي تعني "تعليق الحكم"، أو أن نكتفي بالقول إن الأمر يبدو لنا هكذا، مع عدم يقيننا بحقيقته. العقل، أو قل الذهن، لا يستطيع النفاذ إلى جوهر الأشياء، وليس في إمكاننا أن نعرف شيئا سوى الكيفية التي تظهر بها الموجودات أمامنا.
ومن تعليق الحكم فيما يتعلق بالعلم إلى تعليق الحكم في المجال العملي. هذه الأبوخية تنقلت عبر القرون حتى وصلت إلى إدموند هوسيرل وجاك ديريدا في القرن العشرين وفلاسفة ما بعد الحداثة. ومع هوسيرل وديريدا صار مفهوم الأبوخية يعني التوقف عن الحكم ووضع العالم المكاني الزماني بين أقواس، بحيث سقط الاعتقاد الطبيعي بهذا العالم، وثبت التوقف عن اتخاذ أي موقف إثبات أو نفي إزاء وجود الموضوعات.
كان زمن بيرون قريبا من زمن زينون الرواقي وأبيقور، والجميع أسسوا مدارس لها أتباع ودعاة نشطاء، لكنّ الرواقيين والأبيقوريين ينظرون إلى العلم والمعرفة نظرة إيجابية إثباتية، ترى فيه وسيلة لراحة البال. أما بيرون والشكوكيون، فهم على العكس تماما، ولذا طلبوا راحة البال عن طريق إنكار المعرفة والعلم والتخلي عن كل المسؤوليات الناتجة عن المعرفة. هذه هي الطريقة التي سعى بها إلى السعادة أو على الأقل السلام العقلي الذي نسميه راحة البال، ومن هنا نشأ التنافس بين المدارس الثلاث.
بيرون يشبه سقراط في كونه لم يكتب سوداء في بيضاء، وأن الناس بعده انطلقوا منه في اتجاهات شتى، وصاروا يعزون إليه كل ما يكتشفونه، بل صاروا ينظرون إليه كأحد أبطال الملاحم، كما يقول أحد المؤرخين. لكنّ المعروف عنه أنه تجنب إلزام نفسه بأي رأي حول ما كان يحدث بالفعل، ولم يتصرّف إلا وفقا للمظاهر. بهذه الطريقة سعى إلى السعادة أو على الأقل السلام العقلي، الذي نشده الرواقيون وأبيقور، إنما بطريقته الخاصة. ومعه امتدّت النزعة الشكوكية لتطاول الجانب العملي فلا شيء في ذاته قبيح أو جميل، مثلما أنه لا شيء في ذاته صواب أو خطأ. ولذلك يسير البيروني في حياته وهو يُرجح بين الأقوال، محترما العرف والقانون، وإن كانت الحقيقة المطلقة بالنسبة إليه، هدفا يستحيل بلوغه.
هناك ثلاثة أسئلة يعتز بها بيرون:
1- ما الأشياء التي تحيط بنا؟
2- كيف نحدّد علاقتنا بها؟
3- ما الموقف الذي يتعين أن ننطلق منه تجاهها؟
الأجوبة على التوالي:
1- نحن لا نعرف حقيقة الأشياء، وإنما نعرف ظاهرها. أما حقيقتها الباطنة فمجهولة تماما. والشيء الواحد يظهر بمظاهر مختلفة بحسب الأشخاص. أي أن ما عندنا مجرد رأي وليس حقيقة.
2- نتعامل مع الظاهر.
3- نعلّق الحكم فيما يخص علاقتنا بالأشياء.
تشير القصص التي تواترت عن بيرون إلى أنه لم يكن مُنظّرا، بل مثالا حيّا على الشكوكي الكامل، الرجل الذي لم يلزم نفسه بأي حكم يتجاوز ما يبدو عليه الحال. يبدو أن اهتماماته كانت أخلاقية ومعنوية في المقام الأول، وفي هذا المضمار حاول تجنّب التعاسة التي قد تكون بسبب قبول نظريات القيمة، والحكم وفقا لها. إذا كانت نظريات القيمة هذه مشكوكا فيها إلى حد ما، فإن قبولها واستخدامها يمكن أن يؤديا فقط إلى التعب النفسي.
يعتقد البيرونيون أن الوثوقيين وشكّاك الأكاديمية قد أكدوا أكثر من اللازم، إذ قال الوثوقي: "يمكن معرفة شيء ما"، في حين قالت مدرسة الشك "لا يمكن معرفة أي شيء". بدلا من ذلك، اختار البيرونيون تعليق الحكم على جميع القضايا التي يبدو أن الأدلة متضاربة بشأنها، بما في ذلك السؤال عما إذا كان يمكن معرفة شيء ما أم لا.
التشكك بالنسبة إلى البيرونيين هو القدرة، أو الموقف العقلي الذي ينهض لمعارضة الأدلة المؤيدة والمعارضة، حول ما هو غير واضح، بحيث يعلق المرء الحكم. هذه الحالة الذهنية تؤدّي بعد ذلك إلى حالة من راحة البال والسلام، إذ لم يعد الشكوكي يشعر بقلق يتعلق بأمور لا يمكن البتّ فيها، أمور لا تتجاوز المظاهر، وهكذا كان الشك علاجا لمرض يسمى الوثوقية. وعلى عكس الشكوكية الأكاديمية التي انتهت إلى نتائج وثوقية سلبية نافية بسبب شكوكها، لم تتقدم الشكوك البيرونية بمثل هذا النفي، واكتفت بالقول إن الشك هو تطهير يقضي على كل شيء، بما في ذلك نفسه. وهكذا يعيش البيروني، لا يثبت شيئا ويتبع ميوله الطبيعية، ويحترم قوانين مجتمعه وعاداته، دون أن يلزم نفسه أبدا بإصدار أي حكم عليها.
من الصعب تحديد ما إذا كان الشخص الذي نجح في عدم تكوين أي معتقدات يمكنه التواصل مع الآخرين في نقاش مفيد، أو ما إذا كان بإمكانه الانخراط في تحقيق فلسفي، أو ما إذا كان بإمكانه حتى التفكير على الإطلاق
ازدهرت الحركة البيرونية حتى حوالي 200 بعد الميلاد، وهو التاريخ التقريبي لسيكستوس أمبريكوس، وازدهرت بشكل رئيسي في المجتمع الطبي حول الإسكندرية كترياق للنظريات العقائدية، الإيجابية والسلبية معا، مستهدفة الآراء الطبية. هذا الموقف وصل إلينا بشكل أساسي في كتابات سيكستوس، في كتابه "الخطوط العريضة للبيرونية" و "ضد الرياضيين". وقد تعرض لجميع التخصصات، من المنطق والرياضيات إلى علم التنجيم وقواعد اللغة، وسلّط عليها شكوك الدمار الشامل. اختفت البيرونية عندما أغلق جستنيان مدارس الفلسفة، لكنها عادت للازدهار من جديد في عصر النهضة مع نصوص سيكستوس.
هناك اعتراضات قوية أوردها خصوم البيرونيين من أفلاطون وأرسطو إلى الرواقيين والأبيقوريين، تقول إن تعليق الحكم هو عنصر أساسي من عناصر الشك: الشكوكي يعلق الحكم، وهذا يعني أن الشكوكيين لن يشكلوا أية معتقدات على الإطلاق، وبذا قد يصبح الشك نوعا من الانتحار المعرفي، في حين أن تكوين المعتقدات سمة أساسية للنشاط المعرفي البشري.
ويزيدون أنه ليس من الواضح ما إذا كان يمكن للمرء أن يعيش حياة بشرية عادية دون اعتقاد، بل قد لا يمكن للبيروني أن يبقى على قيد الحياة إن لم يعتقد بشيء. ولو شبّ حريق في بيته، وأخبره من بالبيت بذلك، فيجب عليه أن يحاول النجاة بحياته وإلا لكان مجنونا لا فيلسوفا. بل حتى أبسط الإجراءات، مثل تناول الطعام أو الخروج إلى الشارع دون الوقوع على قارعة الطريق، كلها تتضمن اعتقادات.
ومن الصعب أيضا تحديد ما إذا كان الشخص الذي نجح في عدم تكوين أي معتقدات يمكنه التواصل مع الآخرين في نقاش مفيد، أو ما إذا كان بإمكانه الانخراط في تحقيق فلسفي، أو ما إذا كان بإمكانه حتى التفكير على الإطلاق. وأكثر القوادح شدة، هو أن لا أحد يستطيع التصرف من دون اعتقاد.
يدرك البيرونيون هذه الحجج جيدا ويردّون، بأنهم لا يعترضون على الاسترشاد بالمعقول أو بالمقنع من الأقوال أو المظاهر، على الرغم من أنهم لا يتخلون عن مقولتهم بأن الشك يحجب إمكانية العيش بناء على الحقائق، فالوصول إليها غير ممكن، ومع ذلك يمكن للمرء أن يعيش وفقا لممكن الحدوث، وما يملك حدا معينا من القبول غير اليقيني، والسماح بمقدار كافٍ لتوليد العمل وتوجيهه، وهكذا تحولوا عبر القرون إلى أن يكونوا أكثر عملية.