"الصراع على سوريا"، إحدى العبارات التي أسسها الصحافي والكاتب البريطاني الراحل باتريك سيل، إضافة إلى: "الأسد والصراع على الشرق الأوسط"، و"الصراع على السلام في الشرق الأوسط".
اختصر سيل التاريخ السوري المعاصر في مرحلتين: ما قبل الأسد، وما بعده. كانت سوريا ونظامها السياسي مسرحا لصراع إقليمي ودولي قبل تسلم الرئيس الراحل حافظ الأسد وجعلها لاعبا إقليميا بامتدادات ونفوذ في الدول المجاورة والإقليم، قبل أن يدخل في "صراع" تحقيق السلام عبر مفاوضات مباشرة وغير مباشرة مع إسرائيل.
جنازة الأسد قبل 23 سنة، عبّرت عن التحالفات والعلاقات المتناقضة التي كان قد نسجها. حضر الأميركيون والروس والأوروبيون. حضر الإيرانيون والأتراك والعرب. حضر ممثلو أنظمة عربية ومعارضوهم. صحيح أن الجنازة دلت على الدور الخارجي لسوريا، لكنها أيضا دلت على الرهانات. كل فريق كان يريد سحب سوريا إلى ضفته. كل فريق كان يريد ضم الرئيس الجديد بشار الأسد إلى حلفه.
اختصر باتريك سيل التاريخ السوري المعاصر في مرحلتين: ما قبل الأسد، وما بعده. كانت سوريا ونظامها السياسي مسرحا لصراع إقليمي ودولي قبل تسلم الرئيس الراحل حافظ الأسد
أين سوريا من هاتين الحقبتين حاليا؟ وما موقع سوريا الجديدة؟
تغير الإقليم والعالم كثيرا في العقدين الماضيين. وتغيرت سوريا أكثر، خصوصا في العقد الأخير. حاليا، هي مقسمة لثلاث "دويلات": منطقة الحكومة بدعم روسي وإيراني، منطقة سيطرة كردية بدعم أميركي وغربي، جيوب معارضة بدعم تركي.
سوريا و"دويلاتها" حاليا ساحة لتنافس أو تفاهم أميركي- روسي، صراع عسكري إيراني– إسرائيلي، ضربات غامضة وواضحة أميركية– إيرانية، طاولة لتفاهمات روسية– تركية، وروسية– تركية– إيرانية، صندوق بريد لتبادل رسائل المتحاربين في ساحات الصراع الأخرى، من ليبيا إلى أوكرانيا.
ثلاث فعاليات واجتماعات سياسية رفيعة تجري هذه الأيام، هي أوضح تعبير عن واقع الحال السوري في الوقت الراهن. اجتماع نواب وزراء خارجية سوريا وتركيا وإيران وروسيا في موسكو الأسبوع الماضي، زيارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي إلى دمشق يوم الأربعاء، اجتماع وزراء خارجية السعودية ومصر والأردن والعراق وسوريا في عمان، اليوم الاثنين.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يضغط بقوة على الرئيس الأسد لعقد لقاء مع أردوغان قبل الانتخابات التركية منتصف الشهر الجاري. الأسد، اشترط للقاء واحدا من ثلاثة: الانسحاب التركي من سوريا، وعدا بالانسحاب، برنامجا للانسحاب.
سوريا حاليا ساحة لتنافس أو تفاهم أميركي- روسي، وصراع عسكري إيراني– إسرائيلي، وضربات غامضة وواضحة أميركية– إيرانية، وطاولة لتفاهمات روسية– تركية، وروسية– تركية– إيرانية، وصندوق بريد لتبادل رسائل المتحاربين في ساحات الصراع الأخرى، من ليبيا إلى أوكرانيا
أمام الشروط والشروط المسبقة، ذهبت موسكو إلى ترتيب لقاءات أمنية وعسكرية وسياسية لوضع خريطة طريق تنتهي بلقاء الأسد- أردوغان. لكن الصراع الحقيقي، هو مستقبل النفوذ التركي في سوريا ودور دمشق في تعبيد الطريق أمامه للتوغل عربيا أو وقفه لتتحول الأراضي السورية إلى "الجبهة الشمالية" مع تركيا، كما كان العراق "الجبهة الشرقية" ضد إيران.
أما زيارة الرئيس الإيراني، وهي الأولى منذ 13 سنة عندما زار دمشق الرئيس محمود أحمدي نجاد في 2010، فإنها ترمي إلى قطف ثمار دور طهران في "إنقاذ النظام السوري" بعد تدخلها عبر الميليشيات والسلاح والذخيرة والمال اعتبارا من 2012. زيارة رئيسي، إن تمت تكون المحاولة الرابعة له كي يزور دمشق. ألغيت زياراته السابقة ثلاث مرات بسبب الخلاف بين دمشق وطهران حول نتائج الزيارة. إيران تريد تنازلات سيادية في سوريا. تريد مصالح وقواعد وامتيازات عسكرية واقتصادية واجتماعية.
من هنا تأتي أهمية الطريق الثالث، اجتماع الوزراء الخماسي في العاصمة الأردنية اليوم. هناك رهان عربي على فتح نوافذ لدمشق كي تدخلها رياح عربية. رهان على أن استعادة العلاقة والحوار بين دول عربية ودمشق، قد يخفف من اعتماد الأخيرة على الحليف الإيراني ويعزز من عزيمتها للوقوف في وجه الغريم التركي. رهان على ان تكون تقوية "الدولة السورية" سدا وحاجزا امام تدفق هذا وسيول ذاك، بين انتشار الميليشيات هنا ووجود القوات الأجنبية هناك.
زيارة رئيسي، إن تمت، ستكون المحاولة الرابعة له كي يزور دمشق. ألغيت زياراته السابقة ثلاث مرات بسبب الخلاف بين دمشق وطهران حول نتائج الزيارة. إيران تريد تنازلات سيادية في سوريا. تريد مصالح وقواعد وامتيازات عسكرية واقتصادية واجتماعية
روسيا الموجودة بثقلها العسكري والاستراتيجي في سوريا، والمشغولة بحربها الأوكرانية ورهاناتها السودانية والأفريقية، وغيرها، تحاول ضبط الإيقاع في سوريا بين الخيارات الثلاثة: التركي، الإيراني، العربي. لموسكو مفتاح، لكن ليس جميع المفاتيح. لدمشق مفتاح لكن ليس جميع المفاتيح. كذلك، حال اللاعبين والمتصارعين والمتنافسين في سوريا.
الصراع يحتدم على سوريا الجديدة. معركة سياسية ودبلوماسية واقتصادية بعد حروب النار في العقد الأخير.