في ذكرى محمد عابد الجابري

في ذكرى محمد عابد الجابري

يُذكر المفكرون بما خلّفوه من "آثار" traces. لست أعني أساسا مآثرهم وأعمالهم œuvres والمؤلفات التي حفظها لهم التاريخ، وإنّما المعالم التي رسموها، والقطائع التي خلّفوها، والانفصالات التي أقاموها، والشّروخ التي أحدثوها في تاريخ الفكر. كلّما شكّل المفكر لحظة انعراج، ازدادت أعماله قيمة في الميدان الذي اقتحمه. من هنا الأهمية الكبرى التي تتخذها القيمة المنهجية لعمل المفكر، تلك القيمة التي تجعل الفكر ما بعده مخالفا لما تقدَّمه منفصلا عنه. من هذه الوجهة، نحاول أن نسترجع مساعي التجديد التي وسمت عمل المرحوم.

بعد أن أعلن م.ع. الجابري (الذي يصادف الثالث من مايو/ أيار ذكرى وفاته في 2010)، رفضه، في دراسته للتراث العربي الإسلامي، لما دعاه "ماركسية مطبَّقة"، حاول الحفر في أساسيات ذلك التراث. هذا الحفر جعل صاحب "نقد العقل العربي" يسعى لا لأن ينفلت من قبضة ماركس وحده، بل ربما حتى من قبضة هيغل، والخروج عن "الزمانية الهيغلية" والانفتاح على المنهج الجنيالوجي. من هنا حديث صاحب تكوين العقل العربي عن المفهوم الأركيولوجي لتاريخ الأفكار، وجعل مشروعه في نقد العقل العربي يضم شقين: شقا ساكرونيا وآخر دياكرونيا، أو كما كتب هو، شقا بنيويا وآخر تكوينيا. هاهنا سعى صاحب الجابري لا أن يكون مشروعه تأريخا للعقل كمنتوج، وإنما محاولة لإقامة أساسيات المعرفة العربية، ومتابعة للكيفية التي ترسّخت عن طريقها "أصول الفكر العربي"، وهو يحدد تلك الأصول بأنها "طرق في العمل والإنتاج، وأساليب في الإقناع، ومقاييس للقبول والرفض".

من هنا ذلك التوظيف الذي يبدو جديدا، لا عند الجابري وحده، وإنما جديدا قياسا على الفكر العربي المعاصر بإطلاق، وأعني ذاك الذي وظف به الجابري مفهوم "الأصل"، لا من حيث هو بداية زمنية، وإنما من حيث هو ما يعطي للبداية معناها كأصل. لعلّ هذا التّوظيف هو ما سيسمح لصاحب "نقد العقل العربي" بأن يعيد النظر في جدلية "الأنا والآخر"، وفي مفهومي الدخيل والأصيل.

سعى الجابري لا أن يكون مشروعه تأريخا للعقل كمنتوج، وإنما محاولة لإقامة أساسيات المعرفة العربية، ومتابعة للكيفية التي ترسّخت عن طريقها "أصول الفكر العربي"، وهو يحدد تلك الأصول بأنها "طرق في العمل والإنتاج، وأساليب في الإقناع، ومقاييس للقبول والرفض"


 كل هذا جعلنا نشعر أننا أمام محاولة جادة لإحداث انفصال في الفكر العربي، والخروج بالدراسات العربية الإسلامية من أسر المناهج التقليدية، بل محاولة النظر إليها من منظور جديد يطرح مسألة التراث بعيدا عن التأريخ الكرونولوجي. فهل تمكّن المرحوم من الانفلات الفعلي من "القبضة الهيغلية" بكل تنويعاتها عند اقتحامه لمشروعه الضخم في نقد العقل العربي؟

لا ينبغي أن ننسى أن محاولة "الانفلات من القبضة الهيغلية"، على حد تعبير جان هيپوليت، كلفت الفكر المعاصر، لا الانسلاخ من مفهوم معين عن التاريخ فحسب، ولا التحرّر من فلسفات الكوجيطو في جميع أشكالها، مع ما تدعيه من مبدأ أساس يوجه حركة التاريخ ويؤسس معناها، وإنما أساسا، التخلص من كل رؤية تطابقية identitaire إلى التاريخ وإلى الذات والآخر. فإلى أي حدّ تخلص الجابري من هذه الرؤية؟

نعلم أن الجابري لم يكن يهمه أساسا كتابة تاريخ مغاير للفلسفة العربية الإسلامية، وإنما حاول أن يذهب أبعد من ذلك فهدف، كما يقول، إلى تدشين عصر تدوين جديد "تعاد فيه كتابة التاريخ الثقافي العربي بتوجيه من طموحاتنا، نحن العرب، في التقدم والوحدة". الطموحات التي وجّهت الجابري هي ذاتها التي نلحظها عادة في تاريخ الأفكار كلما شعرت جماعة بوحدتها. ما ميّز عصر التدوين، هو كونه شكل الإطار المرجعي للعقل العربي، أي "الفترة التي رسمت فيها في الوعي العربي صورة العصر الجاهلي والعصر الإسلامي الأول، وهي نفسها الفترة التي نقلت خلالها إلى اللغة العربية، وبالتالي إلى الوعي العربي ذاته، صور من الثقافات الأجنبية تحت ضغط هذه الحاجة أو تلك". فما قام به هذا العصر لم يكن إلا عملية توحيد بفضلها قُعِّدت لغة هي اللغة العربية الفصحى، وتوحّدت مناهج الاستدلال، وتحوّلت تواريخ الجماعات التي أسلمت إلى تاريخ واحد لأمة تستمد وحدتها من الأصول التي تستند إليها.

عندما يعود المرحوم في مؤلفاته النقدية إلى عصر التدوين، ينبهنا أنه لا يعود إليه عودة سلفية، لا يعود إليه كلحظة ممتازة من لحظات التاريخ الكرنولوجي، ولا كعصر مضى وإنّما من حيث هو عصر "حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له وفي كل ماض آخر منظورٍ إليه من داخل الثقافة العربية الإسلامية، كما هو حاضر في مختلف أنواع 'الغد' التي أعقبته" (تكوين العقل العربي، ص. 71). إن الجابري لا يريد لمشروعه أن يكون مجرد تأريخ للأفكار، وإنما محاولة لمتابعة الكيفية التي ترسخت عن طريقها أصول الفكر العربي. وقد ألمحنا أنه لا يفهم الأصل كبداية زمنية وإنما كأصل يعطي للبداية معناها كأصل. نتبين ذلك في ما يقوله عن الثقافة العربية في الحياة الجاهلية: "لقد تشكلت بنية العقل العربي في ترابط مع العصر الجاهلي فعلا، ولكن لا العصر الجاهلي كما عاشه عرب ما قبل البعثة المحمدية، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد البعثة: العصر الجاهلي بوصفه زمنا ثقافيا تمت استعادته وتم ترتيبه وتنظيمه في عصر التدوين الذي يفرض نفسه تاريخيا كإطار مرجعي لما قبله وما بعده" (تكوين..ص.6) . من هذا المنظور تنهار المقابلة التقليدية بين الأصيل والدخيل. وما يسميه المؤلف موروثا قديما، "أي ذلك الخليط من العقائد والديانات والفلسفات والعلوم التي انتقلت إلى الدائرة العربية الإسلامية عبر الفتوحات ودخول البلاد المفتوحة تحت راية الدولة الجديدة" (تكوين..ص. 141)، ينبغي اعتباره جزءا لا يتجزأ من الثقافة العربية الإسلامية. ولا ينبغي "النظر إليه على أنه دخيل أو أجنبي، بل يجب أن ننظر إليه على أنه جزء من تاريخنا القومي" (ص. 192).

لا يعود الجابري إلى عصر التدوين كلحظة ممتازة من لحظات التاريخ الكرنولوجي، ولا كعصر مضى وإنّما من حيث هو عصر "حاضر في الماضي العربي الإسلامي السابق له وفي كل ماض آخر منظورٍ إليه من داخل الثقافة العربية الإسلامية، كما هو حاضر في مختلف أنواع 'الغد' التي أعقبته"


يظهر إذن أن هذه الرؤية التي تعتبر ما سُمي عند البعض فكرا دخيلا، جزءا لا يتجزأ من الثقافة العربية وأصلا من أصولها، إن هذه الرؤية تحيد بمفهوم الأصل عن كل رؤية تطابقية. بهذا المعنى لا تفتأ الثقافة تتأصل، حينئذ لا يمكن لتأصيلها إلا أن يكون نقدا مزدوجا لا يتم إلا بانفصال الثقافة عما عداها، ولكن أيضا وأساسا انفصالها عن نفسها.

فهل هذا هو التأصيل الذي اعتمده صاحب "نقد العقل العربي" في كل ما كتبه؟ وهل ظل الجابري وفيا لهذا المفهوم؟ هل تخلَّص بالفعل من كل نظرة تطابقية؟ تلك مسألة تتطلب دراسة أوسع، وتحتّم علينا أن نفحص هذا المفهوم على ضوء كل أجزاء "نقد العقل العربي"، وأيضا على ضوء كل ما كتبه المرحوم حول الفكر العربي المعاصر، خصوصا وأنه كان يفكر دوما تحت ضغط "قضايا الساعة".

font change
مقالات ذات صلة