"المفارقة الأموية"، واحدة من معضلات التاريخ العربي والإسلامي غير القابلة للفهم، طالما ظلت الكتب والأبحاث العربية المعاصر تعيد إنتاج الروايات المنحازة المتضمَّنة في المصادر التاريخية العباسية. وحين نذكر مصطلح المفارقة (Paradox)، فإننا نعني تلك المسألة، غير القابلة للفهم، والتي يلمسها أي دارس أو مؤرخ يبحث في حقبة صدر الإسلام، بين مقدمات تطرحها مصادر شكلت عماد الرواية التاريخية العباسية التي يمثلها خير تمثيل عمدة التاريخ العربي أبو جرير الطبري من جهة، وبين النتائج التي لا تتناسب مطلقا مع المتغيرات الدولية الكبرى التي رصدتها المصادر والأرشيفات التاريخية لبعض الممالك والامبراطوريات المعنية بهذه المتغيرات ومنها الأرشيف الامبراطوري الصيني من جهة أخرى.
تحويل المثالب إلى فضائل
يصلح معاوية بن أبي سفيان كأنموذج ممتاز لتلك المفارقة، حيث تقدمه المصادر التاريخية الإسلامية المكتوبة في العصر العباسي الأول، من قبيل كتب سيف بن عمر الضبي، وأبي مخنف لوط بن يحيى، ومحمد بن عمر الواقدي، تصوره مجرد طامع مغتصب للسلطة، أمضى سنوات حياته يحيك الدسائس لتثبيت "ملكه العضوض"، وتأسيس "سلالة هرقلية كسروية حاكمة بالبغي على حق آل البيت في الحكم"، وباتخاذ حادثة قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ذريعة للوصول إلى "غايته الدنيئة" تلك.
وتغدو دعوته للاحتكام إلى كتاب الله في معركة صفين في تلك المصادر مجرد خدعة، من دون إقناعنا بمكمن تلك الخدعة في هذه الدعوة المنطقية والمحقة لحق دماء المسلمين، والتي نتج عنها "قضية التحكيم"، أكبر وصمة عار في جبين معاوية وعمرو بن العاص في بعض المصادر الإسلامية. وتتغافل تلك المصادر عن قتل خليفة وأمير مؤمنين في بيته، ومحاولة إلصاق تهم باطلة ضده، في تبرير خجول لقتلته الذين أثبتت الروايات الإسلامية نفسها أنهم مجرد أشخاص طامعين بالسلطة والمال.
ومن أجل تثبيت ذلك الانطباع شديد القتامة عن معاوية بن أبي سفيان، حرصت مصادر إسلامية على التغاضي عن منجزاته العسكرية الكبرى، ودوره في حركة التاريخ، وتغيير مسار حركة التجارة العالمية، وخصوصا طريق الحرير الذي قامت بسببه إمبراطوريات واختفت أخرى.
ومع أن المؤرخين العرب والمسلمين في الحقبتين الأيوبية والمملوكية تنبهوا لهذه المفارقة وحاولوا جاهدين حلها، إلا أنهم لم ينجحوا البتة في مسعاهم ذاك، والسبب أنهم كانوا أسرى مصادر ومرويات الطبري صحيحها وفاسدها، ولذلك انصبّ جهدهم على تحويل مثالب معاوية، مثلما ترد في كتب الحقبة العباسية إلى فضائل عبر جهود لغوية وتفسيرية متكلفة غير مقنعة. وكمثال على ذلك محاولة تحويل تهمة زنا هند بنت عتبة، والدة معاوية في قصة الفاكه بن المغيرة الشهيرة، إلى فضيلة عبر تنبؤ الكاهن اليمني لها بأنها ستلد ملكا، من دون نفي القصة الركيكة الملفقة والمختلقة جملة وتفصيلا. وكذلك تحويل قصة عجيزة معاوية الكبيرة (!) إلى فضيلة، عندما يصبر ويَحلُمُ على شخص وضع يده عليها مشبها إياها بعجيزة والدته هند! وقصص أخرى من هذا القبيل، كثيرة مخجلة.
اقرأ أيضا: لِمَ نتجادل حول معاوية أصلا؟