العود الأبدي لسفينة نوح

العود الأبدي لسفينة نوح

ثمة نزوعٌ نوحيٌّ كامنٌ في أغوارِ الحُلمِ الإنسانيّ ورؤاه المستقبليّة، باتتْ تُترجِمُ أشكالَهُ وصورَهُ وحقيقتَهُ علومُ اكتشافِ الفضاءِ الخارجي، والبعثاتُ المتواترةُ إلى كواكب في المنظومة الشّمسية، عبر أقمار وسفن وآليات تكنولوجية، هي مسكونة بالبحث عن أثر الحياة في مكان آخر غير الأرض. منذ نجاح أوّل صعود لنيل آرمسترونغ (وهو أوّل نوح معاصر بشكل أو بآخر) إلى القمر، تعزّزَ هذا الطّموح وتقوّتْ ركيزة حُلميّته، فأمسى كوكب المرّيخ مثلا هو قطب الغواية في مراتب هذا الاكتشاف العلمي المبهر.

لا يقف الحلم عند حدود اكتشاف حياة موازية، سابقة أو لاحقة، أقدم أو أطرأ، في المنظومة الشمسية وحدها، بل يتعدّاه إلى منظومات أخرى... و الهدف المعلن هو سبر أغوار الكون و استجلاء أسراره، فيما الأثر الخفيُّ هو حلم الهجرة إلى المكان البديل،حيث أمست الحياة مهدّدة بالزوال في كوكب الأرض، ليس بفعل المعطيات الطبيعية الكارثية (التسوناميات والنيازك)، وكذا الوبائيّات المتغوّلة الكبرى، المنذرة بكابوس النّهايات المحتملة (فيروس كورونا مقدّمة صغيرة لهكذا كوارث بيولوجيّة مستفحلة لاحقا على الأرجح)، أو بناء على خطر خارجي (هجوم حضارة كائنات فضائية أذكى منّا بكثير)، وإنّما زوالها نوويّا، بالنظر إلى الأسلحة المدمرة التي نبغ الكائن البشري في استنباتها، وغدتْ بما لا يجانب اليقين مصدر تهديد حقيق لوجوده، والمسألة برمتها منذورة لكبسة زرٍّ لا غير.

أمام الخطر المحدق لهذه الفرضيّة السّوداء المؤرقة، ثمة إمكانية وحيدة للنجاة من طوفان الكارثة النووية، هي اللجوء إلى مكان ما في الكون، عبر سفينة فضائية، تعيد شكل ملهاة سفينة نوح وقصة الحياة على أرض أخرى.

الماء ها هنا ليس شرّا مُطلقا، وإن كان احتمال النهاية أكيدا، لكنها نهاية تبدو في عُرْف المغامرة والمخاطرة أرْحم من بشاعة موتٍ يوميٍّ في يابسة الجنوب التي تعاني أفدح أشكال التّفقير والتجويع والقتل

النّوحيون (نسبة إلى نوح) أو (الأوتنابشتميون نسبة إلى أوتنابشتم السومري) هم أول اللاجئين في التاريخ، ممّنْ جربوا الهجرة الطارئة إثر خطر كوني يتهدّد العرق البشري ووجوده، فلاذوا بترحالٍ مجهولٍ صوبَ شاطئ نجاة مفترض، وحملوا معهم من الأنواع ما سيحفظ امتدادها وتناسلها وكذلك من الألواح ما سيحفظ ذاكرة المعرفة وعلومها وحضارتها.

المياه هذه المادة العجيبة والنادرة التي يعود إليها سبب الحياة على كوكب الأرض، كانت هي نفسها الأداة المدمرة والقاتلة التي سبّبت الحتف الجماعي لبشرية عهد نوح بأمر من ربها في شكل طوفان، والطوفان عقابٌ تطهيريٌّ للأرض من فساد الإنسان وفق رواية الدّين وبعض المتون الميثولوجية.

لتاريخ المحو الذي يضطلع به الماء كأداة للتدمير والطمر والعدم، نماذج وقصص عديدة في الذاكرة الإنسانية، منها مثلا غرق فرعون وجحافل جيشه، وكذلك غرق قارّات بأكملها وفق الفرضيات الأنثربولوجية وعلم الحفريات، قارة أطلنطس كمثال ثانٍ.

هي حياة مشروطة بمعادلة المياه إذن، والمياه هنا خير وشرٌّ في آن، مبتدأٌ ومنتهى، وجودٌ وقيامة ماحقة.

من وريد الماء إلى وريد الماء، تبدو سيرة الوجود الإنساني ملهاة في تصنيف الأساطير والمتون الدينية.

هجرات بالجملة تتكرر حكاياتها في المشهد المعاصر للقرن العشرين والواحد والعشرين، للاجئين هاربين من ويلات الحروب والفقر والقمع والفساد المستشري، فيتحول البحر الأبيض المتوسط إلى مُثلّثٍ آهلٍ بسِيَرِ هذه الرحلات الفردية والجماعية، وهي شكل من أشكال الهروب من الطوفانِ السياسي وشعواءِ الحرب المفرطة في البطش والدم.

يتحوّل الماء ها هنا إلى برزخ ينقل المهاجر من زمن مظلم إلى زمن مضيء (ولو على سبيل الوهم)، وقد يكون البرزخ نفسه هو النهاية والمقبرة، حيث تغرق أغلب القوافل البحرية المستشرية في الجهات.

الماء ها هنا ليس شرّا مُطلقا، وإن كان احتمال النهاية أكيدا، لكنها نهاية تبدو في عُرْف المغامرة والمخاطرة أرْحم من بشاعة موتٍ يوميٍّ في يابسة الجنوب التي تعاني أفدح أشكال التّفقير والتجويع والقتل.

لن يطمئنَّ الإنسانُ الفضائي لحياته الجديدة خارج كوكب الأرض كملاذ سرمديٍّ، إذ سرعان ما سيكرّرُ تجربة المحو عاجلا أم آجلا هناك، فيما يشبه سخريّة قدرية يحملها معه أنّى استقرّ أو ارتحل

المفارقة الصّلبة أن هذا الاتجاه/ الملاذ الذي ترومه قوافل هجرات الجنوب، اتجاهُ الغربِ الذي يتشكّل كشاطئ لفردوس مفقود، هو الآخر – أي الغرب – يفكّر في هجرة مضاعفة، إلى فضاء كوني آخر، تتحقّق فيه شروط حياةٍ بديلةٍ عن هذه المهدّدة آجلا أم عاجلا، بسبب نهاية نووية وشيكة!

في غياب اكتشاف هذا المكان الآمن، البديل، في ظلمات الكون اللانهائي، ربما جديرٌ بالإنسان أن يحفظ ذاكرة معارفه، في شرائح صغيرة وفق ما أوصى ونصح به صاحب "مائة عام من العزلة" الروائي غارسيا ماركيز في خطابه ضمن جلسة افتتاح ندوة السلام والحرب التي عقدت سنة 1986 في المكسيك وكان النص موسوما بعنوان "إنفجار ديموقليس". ربما تسلم وحدها من الطوفان النووي، ويعثر عليها مستكشفٌ مفترضٌ من كائنات متعاقبة.

هكذا إذن، فبدل أن يحافظ الخيال الإنساني على شروط الحياة في الأرض، الكوكب العجيب والمدهش الذي لم يستوف اكتشافه بعد، أمسى هذا الكائن القلق يبحث عن حياة أخرى، وكأنّ الأمر شبيه بمحض خيانة صفيقة.

كُثْرٌ هم الرّوائيّون والسّينمائيّون والمستقبليّونَ الذين تخيّلوا على غرار الجماليات القصوى – لصاحب التواريخ المريخية -  الكاتب الأمريكي  "راي برادبري"، سفينة فضائية ضخمة، هُندِستْ وشُيّدتْ لهكذا لحظةٍ موقوتة، لن يحجز تذاكرها إلا المنتخبون لها، وفق شروط بالغة الخصوصيّة، وهي سياسية وعلمية محضة وفي ذلك ينطوي شرٌّ آخر طبعا، سفينةٌ فضائية تقلع من الأرض في مساء زوال الكوكب الفاتن، لتجرّب الإبحار الكوني فيما بين أرخبيلات النجوم، بحثا عن شاطئ مجهول، ومن الرّاجح أن يكون قدرُها هو التّيه الأبدي.

ومهما يكن من أمر، فلن يطمئنَّ الإنسانُ الفضائي لحياته الجديدة خارج كوكب الأرض كملاذ سرمديٍّ، إذ سرعان ما سيكرّرُ تجربة المحو عاجلا أم آجلا هناك، فيما يشبه سخريّة قدرية يحملها معه أنّى استقرّ أو ارتحل، ووفق هذا المدار المأساويّ ستتناسخُ وتتناسلُ وتتلوْلبُ ملاذاتُ سفنِ نوح إلى ما لا نهاية، فيما يشبه عودا أبديّا.

font change