في سوريا... ندوب الحرب تصنع "الجمال الفائق"https://www.majalla.com/node/290331/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%86%D8%AF%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%AA%D8%B5%D9%86%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%A6%D9%82
دمشق: لا يُمكن أن تختفي الحرب السوريّة من يوميّات شعبها، وشوارعها، وبيوتها، ولا حتى من ثقافة الحاجات اليومية لدى أي مواطن، والتي تشير التقارير الدولية إلى تفاقمها البالغ مع بلوغ معدلات الفقر مستويات تثير الفزع. لكن شيئا من هذا يملك ظهورا مختلفا في اليوميات السورية. فرغم ما تشوّهه تبعات الحرب في النفوس، إلا أن مقدارا مقاوما وخفيّا يظهر لدى الشعوب عموما لنزع أشكال التألّم والتأثّر، حتى وإن بدت هذه المقاومة سطحية، أو بمعنى آخر مجرد نزعة تحويليّة لأثر الحرب.
يميل علماء النفس إلى جعل الناجين من الحرب وتبعاتها ضحايا مختلفي السلوك، أي أن شعورهم بالنجاة يرافقهم بشكلٍ خفي، وهذا الشعور يحمل لديهم رغبة مختلفة نحو الحياة، كالبحث عن أشدّ الرغبات الحسيّة تحقّقا وبساطة. شيءٌ من هذا يبرز في الإعلانات الهائلة الانتشار لعمليات التجميل والانجذاب إليها، بدءا من "إصلاح" شكل الوجه عبر عملياتٍ تقليديّة، إلى انتشار نزعةٍ جماليّةٍ صناعيٌة للشفاه والخدود والأسنان والفك والحواجب، وتفاصيل الجسد الأخرى.
من خلال عمليات التجميل، ينزع السوريون طبقة فقرهم وانغماسهم بقلق تبعات الحرب والتفكير في طرق النجاة منها، نحو بُعدٍ جماليّ حي يتم التفاعل فيه، حيث الصورة تُراكم جذبها وآليّتها في الانتشار، لتصبح مرادفة أو موازية لمجتمعاتٍ مُختلفة تماما في يوميّاتها
غربة استهلاكية
فلا تمر ساعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي دون مشاهدة إعلانٍ، أو دعوى لزيارة مركز تجميل، أو عرض صورٍ لعملياتٍ طبيّةٍ مختلفة لتغيير الشكل. في هذا ينزع السوريون طبقة فقرهم وانغماسهم بقلق تبعات الحرب والتفكير في طرق النجاة منها، نحو بُعدٍ جماليّ حي يتم التفاعل فيه، حيث الصورة تُراكم جذبها وآليّتها في الانتشار، لتصبح مرادفة أو موازية لمجتمعاتٍ مُختلفة تماما في يوميّاتها، أي التماهي مع أشدّ المجتمعات استهلاكية من جهة، ومن جهة أخرى محاكاة نجوم التواصل الاجتماعي، ممّن ينتجون جمالياتهم وفقا لآليّة لا تقف خلفها أي قيمة فنيّة أو طبيّة، بل شركات تسويق ومتابعات إلكترونية لما يظهر من فتيات استعراض، أو نجمات برامج عبر الإنترنت.
رغم الغربة السورية القيميّة عن العالم على مستوى الأفكار والتفاعل الاجتماعي، لكنك قد تجد إعلانا عن مركز تجميل بأجهزة يابانية، أو ألمانية، أو فرنسية.. المُسمّيات تُطلق على مصدر الأجهزة، أي الدول المصنّعة لها. سوريا المنقطعة عن كل شيء تقريبا في العالم الحديث، تظهر في هذه الإعلانات متناغمة معه. فالسوريّون لا يتناغمون قيميّا مع أيّ شكلٍ حديث سوى ما يكون استهلاكيّا، بدءا من الأجهزة اللوحيّة، وصولا للمنتجات الاستهلاكيّة والطبيّة. الكثير من هذا يبدو طاغيا، كردٍّ مُحوّرٍ على الحرب وآلام الجسد، حيث طافت فكرة الجمال لا بوصفها بحثا عن جمالية المكان أو حماية الطبيعة، ولا بآليّة الصناعة الإنسانية العقلانية -كالاهتمام بالعمران والآثار أو الفنون- بل طغى الفردي وبمحتواه الأنثوي غالبا، أي التركيز على أن تكون المرأة هي مدار الجمال وهدفه.
تدمج مثل هذه المظاهر بين الرغبة والنزعة التسويقيّة، ليتجلى بعد آخر من أبعاد الحرب إذ تتغطّى بدثار الجمال والفرادة وهي تحاول انتزاع وجودها عبر مقوّم سطحي. هذا المقوم السطحي قد يبدو بسيطا أحيانا، حيث تطوّرت عمليات التجميل لتُنشئ معايير جمالية مُحدّدة، وجذّابة جرّاء شيوعها، وقابلة للتطبيق عبر الوجه والجسد، أو حتى إضافة التفاصيل كالوشم، أو وضع القلادات المُعلّقة على الجسد. وقد أسهمت الميديا الحديثة والفراغ القيمي في جعل السوريين مندمجين بأشكالٍ تدفعها الرغبة المتواترة لصنع الجمال أو التجمّل، جرّاء كميات العرض الهائلة لمنتجات بشريّة مُجمّلة ومُكرّسة عبر وسائل التواصل لأشكال النجمات وصانعات المحتوى، أو نجمات الفيديو كليب. ومن الجدير بالذكر، أن الزمن الذي استحوذت عليه الممثّلات العربيّات والسوريّات ليكنّ نجمات المماثلة والتقليد قد ولّى، فنجمات وسائل التواصل وصانعات المحتوى بتن يطغين على نجمات التمثيل.
يُدفع المجتمع عبر الشاشات اللوحية لحفظ مركّب جمالي مُعاد تصنيعه، ويتم تكريسه في التكرار، خاصّة أن نزعة جماليّة صنعيّة قد تكون كافية لتضفي على المرأة شعورا بالوجود.
خيال الجسد
يُشير إلى هذا الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو – بونتي (1908-1961)، مُلاحظا كيف تتغيّر المدارك المخياليّة والحسيّة لدى الإنسان عن جسده نتيجة التأثّر بالواقع. أي أن الإنسان يقف حائلا مع جسده وفهمه ومحبّته، وحتى تغييره بناء على بنية التواصل الاجتماعي لديه، وكيف يتغيّر البُعد الخيالي للإنسان عن جسده. فتحت تأثير موجة تسويقيّة هائلة للشكل الصنعي للوجه، وفراغٍ قيميّ، اجتماعي، وسياسي، تُوضع المرأة تحت رغبة مُلحّة لتظهر بمظهرٍ عام بات مفترضا وأساسيا، شكل الشفاه، انتفاخ الخدود، الجفون المشدودة، والأسنان البيضاء اللامعة أيضا. الحس الإدراكي لدى المرأة يُشير لها بأن مقدارا من الجذب يقف خلف صورةٍ معينة بات عليها تقليدها وإيجادها في نفسها.
ميرلو بونتي نفسه يفصل بين نظرتين مختلفتين للإنسان عن جسده. بين أن يكون مُفكّرا بما يريده عن ظهور جسده، وما يتعرّف عليه من الآخرين عن جسده وأجساد الآخرين ويغيّر إدراكاته.
في سوريا تزداد الحاجة إلى الجسد، بوصفه الوسيط الوحيد للفرد مع العالم، خلافا لأيّ بُعدٍ تواصلي طبيعي ينشأ في مجتمع آخر، وانحسار حياة السوري الاجتماعية جعلته منجذبا مشاركا دون أي مقاومة للغة ما بعد الحداثة. يُشير عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار (1929-2007) إلى دور الصورة، وثقافة انبثاق الصور بشكل هائل ويومي من وراء الشاشات، خاصّة الصورة التي لا تملك أصالة أو واقعية في منشئها، حيث لا تبدو إيحاء أو تمثيلا لشيء واقعي، بل تتحوّل لتصبح واقعا فائقا، أي واقعا يملك جانبا موجودا دون أن نجده في واقعنا إلا من خلالها وفي مكمنها كصورة تتكرّر وتُقلّد. هذا الوجود الفائقُ الواقعيّة، سحر عقول السوريين، إذ يختفي المجتمع كحقيقة ليظهر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي العودة إلى الواقع يتم تقليد الما فوق واقعي بقدر ما أمكن. هناك شعور مثلا لدى الشباب بأن الفتاة التي تملك مقومات جماليّة متناغمة وغير حادّة المعالم تملك جمالا عاديا. لا يبدو جذابا إلى حدٍّ كافٍ، أي أن الحاجة للصنعي والزائد والمفتعل، هي ما يبدو جذابا لأنه لغة الواقعي الفائق، ولغة مشاهير مفعمين بالسعادة والنجاح لأنهم يظهرون كترند عبر الميديا، أو يملكون خصائص تتصل بعقل الجمال وسحره. يذكرنا هذا بترابطية المفكر الأسكتلندي دافيد هيوم (1711-1776) بين الإدراك الحسي ونشوء الذاكرة، فتسلسل الصور عبر الميديا، وتدفّقها اللامحدود، يضع جانبا وحاجزا مع أشكال الوجوه العادية.
الزمن الذي استحوذت عليه الممثّلات العربيّات والسوريّات ليكنّ نجمات المماثلة والتقليد قد ولّى، فنجمات وسائل التواصل وصانعات المحتوى بتن يطغين على نجمات التمثيل
محاكاة
هذا الميل نحو الجمال يملك سمة إيجابية، تخصّ المظهر الذي يتمناه المرء عن نفسه، أي موصولٌ بتهذيبٍ جماليّ، يحقّق رضا عن النفس بشكل سياقي ومحدود- أو ببعدٍ إنساني، كمن يعالجون قضايا ذات منشأ صحي. لكن هذا لا يساوي نزعة المحاكاة المتواترة بوصفها بحثا عن تواجد في صورة أخرى تماما، تخرج من الرضا عن النفس نحو صنع آخرٍ ما مصطنعٍ ومُقلّدٍ فقط.
في بلاد فيها الحرب لم تطفأ بعد نيرانها بشكل تام، فالسؤال البديهي: "من أين يملكن مالا من أجل هذه العمليات؟". إن أي طابع ترفيهي واستهلاكي يُحرك سؤالا نمطيا في سوريا عن مصادر أموال الناس، خاصة أن مراكز التجميل تتزايد وتتنافس حتى في أصغر المدن السورية، وبالعموم كلها تعمل بشكل جيد على ما يبدو. ويظهر أن كل طبقات المجتمع تنخرط في محاولة التفاعل ضمن موجة التجميل، وميل الناس رغم فقرهم إلى التماهي مع جميلات ما بعد الحداثة المتدفقين عبر الصور ليست سوى رسالة السوري الممزّق، سواء من صاحب أو صاحبة العملية التجميليّة وصولا للمتفرج على الجمال. حيث يبدو كل شيء إبدالا لما قد يثيره الداخل من أسئلة لا يُمكن الإجابة عنها، في مجتمعٍ تنحسر نشاطاته الاجتماعية ويغدو مقيدا أكثر فأكثر إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
كثير أو قليل من المال سيكون موضوعا في خدمة تغيير الجسد والوجه، نحو صلةٍ بالعالم أولا، ونحو محاولةٍ لإيجاد الذات بالتماهي مع آخر من عالم الصورة ومن عوالم الاستهلاك ثانيا. تزداد الجرأة لمواجهة الجروح، ووضع الجسد والوجه بين اختصاصيي تجميل متنافسين. منذ عشر سنين، وقبل الحرب تقريبا، كانت عملية تجميل الأنف تحتاج تأمّلا، أما اليوم فيندفع الآلاف من السوريين للتجميل، دون حدّ أدنى أو أعلى من الأعمار، ويندرج التباهي بين الشابات والشُبان بالجمال الطبيعي، أو الجمال المُصطنع، وكأن الموضوع يستحوذ تحزّبات وانقسامات أيضا.
تتجاوز هنا الجماليات بُعدها التوازني التقليدي كشرط للجمال، التناغم أو الإنسيابية، والقياسات الأرسطية وما شابه انتفت كقيمة، هناك وجوه اصطناعية، والهوس فيها هو المتاح الوحيد لإيجاد الذات والشخصية في مجتمعٍ متفكّك بأعضائه على مستوى أي قيمة جماليّةٍ أو معرفيّة. ولا يبدو الجمال المتاح إلا الجسد الفردي الخاص، ولا يملك الفرد السوري سوى حريته عليه، والاستهلاك فيه جيدٌ على ما يبدو.
لم يخرج السوري من الحرب بعد، لكنه يخرج منها نحو عالمٍ فائق لكي يهرب من الحرب وهو يرتدي وجها جديدا، دون أن تتركه الحرب وحطامها. ليست دعوى الجمال سوى محاولة لإنقاذ شيء ما قد لا يدركه السوري الآن، الجسد المُجمّل هو الجسد الذي هرب من الأجساد التي نزحت وعلقت في الخيام، أو الجثث التي ظهرت في الحرب، هي محاولة أيضا لنسيان كل هذا.