لندن: في الحقيقة، تطلّبت مني ملاحظة هذا الجدار الذي يحمل لوحات سيزان بعض الوقت. على الرغم من أن العرض الجديد في "ناشيونال غاليري" الذي حمل عنوان "ما بعد الانطباعية" (After Impressionism) اشتمل على ما يقرب من مئة لوحة ومنحوتة لفنانين ذائعي الصيت مثل فان غوغ وغوغان ورودان وكليمت وبيكاسو، إلا أن أعمال سيزان هي ما أبهرني. أدرك أن كلامي قد ينحو بي عن الوفاء لأعماله، إلا أنني لم أستطع سبر أغوار لوحة "المستحمات" الزيتيّة التي عُرضت في الغرفة الأولى.
تنبّهت جميع حواسّي أمام مجموعة من اللوحات التي كادت تفوتني ملاحظتها في البداية. كانت معلقة أمام لوحات فا غوغ، وقريبة جدا من أعمال غوغان.وعندما وصل منسّق المعرض، أصبحتُ مهتما في وصف كل قطعة. انجرفتُ بعيدا في رحلة خيالية انتقلت بي من باريس إلى برشلونة وبرلين متناسيا سيزان لوهلة، حتى أعادني الصوت المرتفع للمنسّق الثاني نحو فضاء التكعيبات وبين أحضان المنحوتات الغريبة جدا لماتيس، لأجد نفسي مستعدا للمغادرة.
لكنني لم أستطع، بل عجزت عن ذلك في تلك الغرفة وأنا أسمع العمال يدقون خلف ستار. تجاوزت المنسّق الصاخب وعدت إلى غرفة سيزان، لأدرك ما فاتني: لوحة تصوّر زوجة سيزان في فستان أحمر، وطبيعة صامتة يزينها طبق من الفاكهة؛ وإطلالة على الجبل الذي كان مهووسا به؛ وأخيرا، صورة لرجل – ليس أي رجل – إنه أمبرواز فولارد تاجرُ الأعمال الفنية الذي كان وجوده في هذه الغرفة متناغما مع اللوحات التي دبّجت جدران الغرفة الأخيرة. لعلّ فولارد يحمل مسؤولية تعلو أي شخص آخر عن الشهرة التي توحّد سيزان وبيكاسو. على الجدار المجاور، علقت لوحة لم أرها من قبل لموريس دينيس.
وقفت شخصيات اللوحة في متجر. وفي وقفتهم هذه، كانوا يطالعون المستقبل من منظورهم الخاص. كانوا يرتدون ملابس داكنة اللون ويتجمعون حول مشهد لطبيعة صامتة تزينها ألوان باهرة أبدعها سيزان ونقلها دينيس بعناية فائقة. لم يكن أسلوب اللوحة قريبا من أعمال سيزان. مع تقليدها للأنماط الأخرى، تستدعي تلك اللوحة الأعمال المتعددة التي أبدعها يوهان زوفاني ببهجة خاصة.
بينما كلّف الفنان العريق أشخاصا غير معروفين الجلوس في حرم لوحته (وتقاضى منهم المال مقابل هذا الامتياز)، كانت الشخصيات هنا تمثل فنانين طليعيين أطلقوا على أنفسهم اسم "مجموعة نابيس" (Les Nabis) أو "الأنبياء" بالعربيّة. خلف حامل اللوحة، يمكننا تمييز إحدى لوحات بول غوغان الذي كان ليحضر شخصيا لو لم يفرّ إلى بولينيزيا الفرنسية.
وددت أن أكون حاضرا أيضا لو لم أهرب إلى القرن الحادي والعشرين، لأن أولئك الرجال كانوا يكرّمون سيزان. بمجرد أن لمحت الجدار مرة أخرى، وجدت نفسي أفعل الشيء نفسه. بدأت أتفحص اللوحات عن كثب إلى درجة أن الحارسة نهضت عن مقعدها بجانب الباب وجاءت تراقبني. كانت تضيع وقتا ثمينا، فأنا لست لوحة زيتية. شعرتْ بالرضا بعدما ألقت عليّ نظرة خاطفة لأنني لم أكن على وشك مهاجمة الصور بالحساء، ثم عادت إلى كرسيها. واصلتُ النظر، وغصتُ أعمق في روعة توظيف سيزان لألوانه.