تتواتر الأنباء بشأن مستقبل الاقتصاد المصري وتدهور سعر صرف الجنيه، حيث أشار أحدث تقرير لـ"ستاندر أند بورز" الى احتمال بلوغ سعر صرف الدولار نحو 40 جنيهاً في أواخر يونيو/حزيران المقبل. كما تواجه الحكومة محنة استحقاقات سداد الديون الخارجية والعجز في التمويل.
وفقا لصندوق النقد الدولي، ليس من علاج للأزمة سوى تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي حقيقي وشامل وتخصيص المؤسسات التي تقع تحت ملكية الدولة أو الجيش. لكن على الرغم من الموافقات المبدئية من قبل الحكومة المصرية على هذه الشروط، فإن التباطؤ هو سيد الموقف، حيث لا يحظى الإصلاح بدعم شعبي، ناهيك عن الثقافة السياسية السائدة المعادية للاستثمار الأجنبي والتحرير الشامل للاقتصاد.
طُرح في الآونة الأخيرة إمكان بيع حصص مهمة في شركات ومؤسسات مملوكة من القطاع العام إلى شركات ومؤسسات في دول الخليج التي نصحت الحكومة المصرية بانتهاج المشروع الاصلاحي المطروح من قبل صندوق النقد والبنك الدوليين وتعويم سعر صرف الجنيه تعويماً شاملاً وحقيقيا.
على الرغم من الموافقات المبدئية من قبل الحكومة المصرية على هذه الشروط، فإن التباطؤ هو سيد الموقف، حيث لا يحظى الإصلاح بدعم شعبي، ناهيك عن الثقافة السياسية السائدة المعادية للاستثمار الأجنبي والتحرير الشامل للاقتصاد
خلال العام المنصرم، تعهدت الحكومة المصرية بتحرير 79 قطاعاً اقتصادياً من ملكية الدولة بالكامل وكذلك بالتحرير الجزئي لـ 45 قطاعاً آخر خلال السنوات الثلاث المقبلة. يضاف إلى ذلك تعهد حكومي بمشاركة القطاع الخاص في الاستثمارات العامة ورفعها من 40 إلى 65 في المئة. بيد أن تطبيق هذه التعهدات قد لا يكون يسيراً بعد أن تكرست مصالح للبيروقراطية والعسكر في مؤسسات اقتصادية أساسية.
بدأت عملية الاصلاح المقترحة في عهد الرئيس الراحل أنور السادات في 1973 عندما صدر القانون 43 لسنة 1974 بشأن استثمار المال العربي والأجنبي والمناطق الحرة والذي أتاح إمكانات ومميزات مهمة للاستثمار الأجنبي في مصر مثل حقوق الملكية والاعفاءات الضريبية والتمتع بالأراضي لإنجاز المشاريع عليها ناهيك عن حق تحويل الأرباح إلى الخارج. جاء القانون الذي أجريت عليه تعديلات عديدة لصالح المستثمرين على مدى السنوات والعقود الماضية، بعد تأسيس نظام اقتصادي شمولي في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والذي نتج عنه تأميم المصالح والاستثمارات الخاصة المصرية والأجنبية في مختلف القطاعات الاقتصادية بدأً بتأميم قناة السويس في يوليو/تموز 1956. كذلك، تم تأميم مصانع النسيج والبنوك وغيرها من شركات في قطاعات حيوية مثل الصناعة التحويلية والخدمات. هذا إضافة إلى قانون الإصلاح الزراعي الذي أنهى الملكيات الزراعية الكبيرة.
لا شك أن النظام الاشتراكي في مصر الذي تأسس بعد صدور الميثاق الذي اعتمد بتاريخ 21 مايو/ أيار عام 1962، عندما أصبحت الدولة تملك كل وسائل الانتاج وتعزز دور النقابات العمالية وتهمش القطاع الخاص بشكل هيكلي. عندما تسلم السادات الحكم بعد وفاة عبد الناصر في عام 1970، وبعد هزيمة مصر في حرب يونيو/ حزيران 1967، كان لا بد من تحقيق الانفتاح الاقتصادي والعمل على جذب الاستثمار. عمد السادات إلى طرح القانون 43 في عام 1974 بهدف تحفيز المستثمرين المصريين والعرب والأجانب لتوظيف أموالهم في قنوات الاقتصاد المصري.
لكن الأمور لم تكن يسيرة وواجه القانون تعقيدات بيروقراطية ومن الجيش الذي أصبح يتحكم في المؤسسات الاقتصادية الرئيسية. ثم تدفقت أموال عربية وأجنبية إلى مصر وُظفت في العقار والمشاريع السياحية. ساهمت السعودية والكويت والإمارات بشكل خاص في مشاريع حيوية، من خلال مؤسساتها الحكومية والخاصة، ومولت المصارف الخليجية العديد من المشاريع المصرية منذ بداية الانفتاح. كما أتاحت القوانين المعدلة للبورصة المصرية للشركات والمستثمرين العرب والأجانب تملك أسهم في شركات مصرية عديدة وأصبحت البورصة جاذبة للأموال ما أدى إلى انتعاشها في فترات زمنية عديدة، خصوصاً في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك. معلوم أن البورصة في مصر ذات تاريخ عريق وشملت تداول أسهم حقوق الملكية والسندات والسلع، مثل القطن في العقود الماضية، وعكفت الحكومة المصرية على جعل البورصة من أهم آليات لتنمية الاقتصاد المصري.
خلال العام المنصرم، تعهدت الحكومة المصرية بتحرير 79 قطاعاً اقتصادياً من ملكية الدولة بالكامل وكذلك بالتحرير الجزئي لـ 45 قطاعاً آخر خلال السنوات الثلاث المقبلة
يتوقع تقرير لبنك الكويت الوطني صدر في 25 أبريل/ نيسان 2023 أن يبلغ العجز في الموازنة المصرية نحو 8,6 في المئة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي. أدى تراجع سعر صرف الجنيه المصري إلى ارتفاع معدل التضخم على أساس سنوي في مارس / آذار الماضي الى 32,7 في المئة، وبحسب تقرير بنك الكويت الوطني، ويرتقب أن يبلغ معدل التضخم 40 في المئة في شهر أغسطس / آب المقبل. ارتفاع معدل التضخم وترشيد الدعم الحكومي في بلد تعاني فيه الطبقات الشعبية من تراجع مستويات المعيشة ليس مقبولاً سياسياً في أحسن الأحوال، لكن ما من بدائل متاحة أمام الإدارة الحكومية، في وقت تتضاءل فرص العمل وتتدنى الإجور الحقيقية بفعل التضخم.
من جهة أخرى ذكرت وزيرة التخطيط المصرية، هالة السعيد، أن معدل البطالة بلغ 7,2 في المئة خلال الربع الثاني من السنة المالية 2022/2023.
ويمثل النمو السريع لعدد السكان في مصر أهم التحديات الاقتصادية. خلال فترة تولي العسكر الحكم في مصر في يوليو / تموز 1952، كان عدد السكان يقارب 20 مليون نسمة، بينما سجل بموجب آخر الإحصاءات في 30 مارس / أذار من السنة الجارية ما يقارب 105 ملايين نسمة. وقد كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع حجم القوى العاملة إلى 30,3 مليون شخص. هذا الحجم من العمالة التي تمثل ما يصل إلى 30 في المئة من عدد السكان، يتطلب توفير فرص عمل فاعلة في القطاعات الحيوية والسعي لرفع معدل النمو الاقتصادي. وكان صندوق النقد الدولي توقع في تقرير صدر في 11 أبريل / نيسان الجاري أن يبلغ معدل النمو 3,7 في المئة في من السنة الجارية ، وهذا يقل عن توقعات سابقة للنمو عند 4,4 في المئة.
يمكن التعويل على قطاع النفط والغاز إلى حد ما حيث يقدر الانتاج بنحو 680 ألف برميل يومياً، ووصلت صادرات البترول والغاز في 2022 الى نحو 18 مليار دولار. يوفر قطاع النفط والغاز فرص العمل ويحقق إيرادات جيدة للبلاد يمكن تحسينها خلال السنوات المقبلة. بيد أنه يتوجب على الحكومة المصرية تشجيع القطاع الخاص لزيادة الاستثمار في الصناعات التحويلية ذات الجدوى الاقتصادية والقدرات التصديرية. كذلك، لابد من النهوض بالقطاع السياحي حيث يعتبر من أهم مصادر الدخل، ومن القطاعات التي توفر فرص عمل في مختلف المناطق الجاذبة للسياحة. ويؤمل أن تتحسن إيرادات القطاع في السنة الجارية بعد أن سجلت 4,1 مليار دولار في الربع الأول من السنة المالية 2022/2023.
يمكن التعويل على قطاع النفط والغاز إلى حد ما حيث يقدر الانتاج بنحو 680 ألف برميل يومياً، ووصلت صادرات البترول والغاز في 2022 الى نحو 18 مليار دولار
اما قناة السويس التي تعد مصدراً سيادياً للدخل فقد حققت 2,3 مليار دولار في الربع الأول من 2023، بموجب البيانات الصادرة عن هيئة قناة السويس. لا بد من الاشارة إلى انخفاض تحويلات العاملين في الخارج في الربع الأول من العام المالي 2022/2023 إلى 6,4 مليارات دولار بعد أن كانت 8,1 مليارات دولار في الربع الأول من العام المالي 2021/2022، وفقا لبيانات البنك المركزي المصري.
هكذا يتضح بأن الاقتصاد المصري مثقل بمصاعب عديدة تطلب معالجات منهجية، ودعماً رشيداً من المؤسسات الدولية والدول الشقيقة والصديقة، وبرنامج عمل إصلاحي تتبناه الإدارة المصرية دون تقاعس، مع عزم في التنفيذ وإرادة حقيقية تستطيع مواجهة مختلف العقبات الإدارية والمواقف السياسية المناهضة للخطوات الإصلاحية.