لندن: ينصبّ التركيز على سيَر الأدباء والساسة ورجال الأعمال والشخصيات البارزة في مجالاتها، بحيث تكون مفاتيح لقراءة أفكارهم والحكايات التي جبلتهم وساهمت في تكوينهم.
الحكايات هي لبّ السير، والأفكار والفلسفات والعبَر المستقاة منها تلوّنها وتكسبها زخما وغنى، بحيث تتمتّع كلّ سيرة بخصوصيتها المتأتية من خصوصية الشخصية والفروقات الفردية المميّزة لها، وما يسِمها من وضوح ومباشرة وواقعية يمنحانها ديمومة وتجدّدا عبر الزمن، ويكسبانها حضورا في الواقع.
ربّما يقود الفضول بعض القرّاء للاطلاع على سيَر الشخصيات المؤثرة والدروب والمسارات التي خاضتها في حياتها والتجارب التي لعبت أدوارا في بلورتها ووصولها إلى ما أصبحت عليه.
تمنح السير الذاتية هامشا للتلصّص على دواخل أصحابها، بحيث يكون الانفتاح على الآخر، وإفساح المجال له للدخول إلى مناطق الشخصية المعتمة، أو المحجوبة عن الآخرين للكشف عنها وتسليط الأضواء عليها
هامش للتلصص
تمنح السير الذاتية هامشا للتلصّص على دواخل أصحابها، بحيث يكون الانفتاح على الآخر، وإفساح المجال له للدخول إلى مناطق الشخصية المعتمة، أو المحجوبة عن الآخرين للكشف عنها وتسليط الأضواء عليها. وهنا لا يتعلّق الأمر بالجانب الفضائحي أو جانب التعرّي والتعرية، بقدر ما يتعلّق بالصراحة والصدق والجرأة والمغامرة.
في هذه المقالة نتحدّث عن سيرتين أدبيتين لكاتبين أفريقيين، أحدهما الكاتب الكينيّ الشهير نغوغي وا ثيونغو الذي كتب سيرة طفولته "أحلام في حقبة الحرب" (ترجمة ريوف خالد، روايات 2023) المفعمة بالحكايات المؤثرة والتفاصيل الحميمة والعبر المستلهمة منها، والثاني لكاتبة نيجيرية هي تشيماماندا نجوزي أديتشي في تجربتها اللافتة "تدوينات عن الحزن" (ترجمة فهد الطاسان، روايات 2022) والذي يأتي مزيجا متداخلا من السيرة في قالب مختلف، حيث التركيز على تجربة وفاة والدها وما خلّفه لديها من أحزان، وكيف أنّ التجربة قادتها لسرد ومضات ومحطات من سيرة أسرتها في إطار الإفصاح عن المشاعر والأحاسيس والآلام.
الكاتب والروائي الكينيّ نغوغي وا ثيونغو يقول في سيرته "أحلام في حقبة الحرب" إنّه وُلد (عام 1938) في ظلال حرب أخرى، وهي الحرب العالمية الثانية، لثيونغو وا ندوشو، والده ووالدته وانجيكو وا نغوغي. ويشير إلى أنّه لا يعرف ترتيبه وفقا للسن، بين الأربع وعشرين طفلا لأبيه وزوجاته الأربع، لكنّه الطفل الخامس في منزل أمه.
يشير إلى أنّه ولد في مجتمع زوجات عاملات، ولديه أخوة وأخوات كبار، وأطفال من عمره أيضا، وبطريرك واحد، وكانت هناك أعراف راسخة تقرر علاقتهم ببعضهم. كما يشير إلى أنّه ربما كان النظام مربكا لكنه تكيّف عليه. ويستذكر كيف أنّهم جميعا كانوا يعلمون، أن القبض على الأفريقي وهو يحمل رصاصا أو فوارغ رصاص كافٍ ليُدان بالخيانة، سيدعى بالإرهابي، والنتيجة الوحيدة المترتبة على هذا: أن يتدلّى من الحبل.
يعود نغوغي وا ثيونغو إلى محطّات تاريخية لينقل عبرها محطّات من سيرته الذاتية وكيف أنّها تأثّرت بها بصيغة ما، يستذكر أنّه منذ مؤتمر برلين في عام 1885 الذي قسّم أفريقيا إلى مدارات نفوذ بين القوى الأوروبية، تنافس الألمان والبريطانيون على استعمار أقاليم شرق أفريقيا، وقد تمثّلت هذه المنافسة عند المغامرين: كارل بيترز، مؤسس شركة شرق أفريقيا الألمانية في 1885، وفريدريك لوغارد في شركة شرق أفريقيا البريطانيّة، التي أسسها السير وليم ماكينن عام 1888.
ويرصد صاحب "تصفية استعمار العقل" كيف كان حال المستعمَرين حينها، وتأثرهم بمستعمِريهم ومحاولة التماهي معهم، يقول إنّه آنذاك، إذا ما سعلت الدولة الاستعمارية الأم، أصيب الصغير المستعمَر بإنفلونزا ضارية. لذا حين اغتال الطالبُ الصربي غافريلو برينسب وريثَ الإمبراطورية النمساوية المجريّة فرانز فرديناند في سراييفو في الثامن والعشرين من يونيو/ حزيران من عام 1914، واندلعت الحرب الأوروبيّة بين الإمبراطوريّات المتنافسة، حاربت الدولتان المُستَعمَرتان، كينيا وتنجانيقا، في صف أمِّيهما، أي تحاربتا، القوات الألمانيّة بقيادة الجنرال فون ليتو فوربيك، ضد القوات البريطانيّة بقيادة الجنرال جان سموتس. ويلفت إلى سخرية الأقدار وكيف أنه لم يكن المستعمِرون الأوروبيون يحاربون بعضهم وحسب، بل أرسلوا العديد من الأفريقيين بصفتهم جنودا وأعضاء في القوات المسلحة إلى الحرب.
يؤكد أنّه استعصت عليه تعقيدات الحرب. تضافرت مقتطفات ومقتضبات القصص والهمس حول استسلام جنود موسوليني في تشكيل صورة لما حدث. كان الأمر بسيطا بالنسبة له. فالأبطال قد هزموا الغيلان، على الأقل أولئك المحتشدين في طريقهم إلينا، وقد كان لأخيه وابن عمه اللذين شاركا في الحرب دور في هذا النصر. كما يؤكّد أنه لم تقتصر دلائل الحرب على القصص ببساطة، بل كانت حولهم في كل مكان.
ينوّه مبدع "تويجات الدم" إلى أنّه بعد أن تحوّلت كينيا من ملكية شركة بريطانيّة إلى دولة مستعمرة في 1895، تركت الدولة الاستعماريّة التعليم في يد البعثات البروتستانتية والبعثة الرومانية الكاثوليكيّة، وكان من ضمنها جمعيّة الكنيسة التبشيريّة المؤسسة عام 1799. ويقول: "ارتكب كل حاكم استعماري، منذ إليوت في 1902 وحتى ميتشل في 1944، جرائمَ عديدة ضدنا... لكن هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها أحدهم الحرب على الشعب الكيني خلال أيام من وصوله. بالطبع، تلقّى الحاكم بارنغ الأوامر من قائده في لندن، تشرتشل نفسه، الذي كان في المحصلة رئيس وزراء. هل ترون السخرية؟ ساعده رجالنا في محاربة هتلر وهكذا يرد لنا الجميل؟".
ويحكي أنه أدرك السخرية في حالته دائما. وأنّه بعد هروبه من أن يكون رومانيا كاثوليكيا، انضمّ إلى طائفة كنيسة أسكتلندا التبشيريّة فيما التحق في الوقت نفسه بمدرسة حكومية، وقبلها التحق بمدرسة من مدارس "كارينغا" المرتبطة بالكنيسة الأفريقية الأرثوذوكسيّة، والمحظورة حينها أيضا. آنذاك، حوّلت كنيسة أسكتلندا التبشيرية اسمها إلى كنيسة شرق أفريقيا المشيخية.
يحكي الكاتب ذكريات مريرة في سيرته، منها طرده مع والدته وإخوته من بيت أبيه، ويصف أنّ ذاك الطرد، وإن لم يكن الطرد من الفردوس، إلّا أنه كان طردا من المكان الوحيد الذي عرفه. لقد فاقت حيرته ألمه. والدته كانت رأس الأسرة على الدوام، والبيت دائما حيث تكون أمه، وبهذا المفهوم كان متجها إلى البيت وذاهبا إلى أمه. لكن رفض والد المرء اعتباره أحد أبنائه ليس بالأمر الهيّن. ضاعف هذا الانتقال شعوره بأني مُبعد، وهو شعور كتمه منذ أن أدرك أن الأرض التي عليها عزبتهم لم تعد لهم.
يستعيد ذكريات كتابته باسمه الذي عُمِّد به جيمس نغوغي، ذاك الاسم الذي نشر به بعد سنوات مقالاته الصحفية ونصوصه الأدبية الأولى حتى 1969، حيث عاد بعدها إلى اسمه نغوغي وا ثيونغو.ويقول إنّه بعد سنوات، في روايته "لا تبك يا ولدي" منح الشاب نجورغو المختلق هالة الواقع والشائعة، الشك واليقين، الأمل واليأس، لكنّه ليس متأكدا من قدرته حقا على تجسيد الشبكة بالغة التعقيد المكوّنة من الابتذال والدراماتيكية، وعادية العيش اليومي السريالية في زمن غير عادي لدولة تحت وطأة الحرب. ويشير إلى أنّه على الأرجح تبقي الخرافة، بقدر ما يبقي الواقع، الأحلام حيّة حتى في أزمنة الحرب.
يرصد صاحب "تصفية استعمار العقل" كيف كان حال المستعمَرين حينها، وتأثرهم بمستعمِريهم ومحاولة التماهي معهم، ويقول إنّه آنذاك، إذا ما سعلت الدولة الاستعمارية الأم، أصيب الصغير المستعمَر بإنفلونزا ضارية
سيرة الحزن والألم
في كتابها "تدوينات عن الحزن" تتناول النيجيرية تشيماماندا نجوزي أديتشي تجربة قاهرة أثّرت عميقا في وجدانها وغيّرت نظرتها لذاتها وعالمها، وهي تجربة موت والدها في زمن كورونا، وتحكي عبر تدويناتها التي تتقاطع مع كتابة اليوميات وتجربة السيرة المرّكزة على حادثة بعينها، مع التقاط تأثيراتها على حياتها في مرحلة سيرية معينة. هنا اليوميات ترّكز على سيرة الحزن والأسى، وسيرة الأب المتوفّى في محطات منها، بالموازاة مع سيرة الابنة التي تتوقّف متأمّلة وجودها وواقعها ومستقبلها.
تستذكر كيف أنّ أخاها كان يُجري من إنجلترا اتصالا عبر تطبيق "زووم" كلّ يوم أحد. وكان ذاك طقسهم الثابت في الحجر: اثنان من إخوتها ينضمّان من لاغوس، وثلاثة منهم من الولايات المتحدة، ووالدها من آبا، مدينة أسلافها في جنوب نيجيريا.
تصف كيف كان والدها واهنا، لا ينام جيدا، لكنّهم لم يقلقوا عليه. وتستذكر كلماته الوداعية الأخيرة، وكيف أنّها أصبحت محطّمة بعد سماعها نبأ وفاته. تقول إنّ مكالمتهم عبر "زووم" تخطّت حدود السريالية. كلّهم بكوا والدهم من مناطق مختلفة حول العالم. تقول "ننظر دون يقين إلى الأب الذي نعشق، راقدا هذه اللحظة على سرير مستشفى... حدّقتُ طويلا في أبي. شقّت عليّ أنفاسي. هل هذا ما تعنيه الصّدمة، أن يستحيل الهواءُ غراء؟".
«لبقية حياتي، سأعيش مع يديَّ الممدودتين للوصول إلى أشياء لم تعد موجودة».
تشيماماندا نغوزي أديتشي بعد رحيل والدها، تكتب في «تدوينات عن الحزن» ذكرياتٍ مليئة بالفرح.. غير أنها ذكريات لشيء مضى. pic.twitter.com/zQuj32TQNh
في سياق سيرة الحزن تورد الكاتبة حادثة طريفة تكسر إيقاع الكآبة المتأتية من تداعيات الأحزان المداهمة لها، حين مازحها أخوها لاحقا بعد وفاة والدها قائلا لها إنّ من الأفضل لها ألّا تتلقّى أخبارا صادمة في مكان عام، ما دامت تتلقّاها بتمزيق ثيابها.
تصف الكاتبة الحزن بأنّه أكثر طُرُق التعليم قسوة. تتعلّم أنّ الحِداد قاسٍ، وينضح بالغضب. تتعلّم الاستماع إلى التعازي بسلاسة. تتعلّم كيف أنّ الحزن مُتعلّقٌ باللغة، بفشلها ومحاولة فهمها. وتقول إنها لم تعلم أننّا نبكي بعضلاتنا. لم يكن الألم مفاجئا، لكن المفاجأة أنه جسدها: مرارة لسانها لم تكن مُحتملة، كما لو أنها تناولت وجبة كريهة ونسيت تنظيف أسنانها. كما تقول إنّ صدرها كان ممتلئا بإحساس ثقيل وشنيع. في داخلها شعور بالذوبان الأبديّ. وكانت تشعر أن قلبها يجري مُبتعدا عنها. تؤكد أنّ "هذه المحنة ليست للروح فقط، بل للجسد، للآلام، وتثاقل القوى".
تقول إنّ "الحزن ليس شفّافا، بل ماديّ، مُستبدّ، شيءٌ مُبهم"، وإنّه يجبرها على ارتداء جلودٍ جديدة، وكشْط القشور التي غطّت عينيها. تندم على قناعاتها في الماضي، وتصفها بأنها كانت قناعات متعجرفة لشخصٍ لا يخبُر الحزن. قد حزنت في الماضي، لكنها للتوّ تلمس جوهر الحزن. الآن فقط تعلّمت، من شعورها بحوافّه البارزة؛ أنّه لا سبيل للتغلّب عليه.
تصف الكاتبة الحزن بأنّه أكثر طُرُق التعليم قسوة. تتعلّم أنّ الحِداد قاسٍ، وينضح بالغضب. تتعلّم الاستماع إلى التعازي بسلاسة. تتعلّم كيف أنّ الحزن مُتعلّقٌ باللغة، بفشلها ومحاولة فهمها
تلجأ الكاتبة إلى الإنكار، تقول إنّ "هناك نعمةٌ في الإنكار". وتصف الإنكار بأنه ملجأٌ يقي من النظر، لكنّ الجهد في الإنكار هو حزن من نوع خاص لذلك لم يكن من السهل عليها السير في حقل الإنكار، وكان عليها مواجهة واقعها، والسؤال عن كيفية ممارسة البشر حياتهم في العالم بعد فَقْد أبٍ حبيب. وتستذكر كيف أنه حين توفي جدها أيّام حرب بيافرا، في مخيّم لاجئين، ودُفن في قبر ليس له علامة، كان أول شيءٍ قام به ابنه/ والدها بعد انتهاء الحرب هو أنّه نظّم مراسم جنازة متأخرة. ولهذا تحاول تذكير نفسها أنّ أباها كان ليريد أن تُنجز الأمور كما يجب.
تلفت إلى أنه لا يهمّ لو أنها تريد التغيّر، لأنها تغيّرت فعلا. صوتٌ جديد يُظهر نفسه من خلال كتابتها، ممتلئ بالقرب الذي تشعر به نحو الموت، بالوعي بفنائها، صوت واضح بدقّة، حادّ جدا. وتقول إنّ من عناصر الحزن الفظيعة؛ ولادة الشك. وتختم بالتشديد على أنها لا تصدّق بأنها تكتب عن أبيها بصيغة الماضي.