توصلت السلطات السويسرية، ممثلة بالمجلس الاتحادي والمصرف المركزي وهيئة الإشراف على الاسواق المالية الـ "فينما" (FINMA)، في اجتماع عقد طوال عطلة نهاية الاسبوع الثالث من مارس/ آذار الماضي مع ممثلين عن مصرفي "كريدي سويس" و"يو. بي. أس." الى قرار يتعلق بدمج قسري بين المصرفين، ضمن إطار يقدم بموجبه المصرف المركزي تسهيلات الى المصرف الدامج "يو. بي. أس." بضمانة الاتحاد لأي التزامات قد تتكشف لاحقا بذمة المصرف المدموج، أي "كريدي سويس".
حصل الامر بالاستناد الى المادتين 184 و185 من الدستور التي تتحدث عن إمكان إعلان المجلس الاتحادي حالة طوارىء في أوضاع تهدد السلم الأهلي والعلاقات مع الخارج لاتخاذ الاجراءات المناسبة.
إلا أن وزيرة المالية السويسرية، كارين كيلر سوتر، وصفت الاتفاق القسري بأنه "حل تجاري وليس إنقاذا". فيما اعتبر مراقبون آخرون أنه الحل الأفضل لترسيخ الثقة بالأسواق المالية والمحافظة على مكانة سويسرا كمركز مالي دولي آمن ومستقر. وأن عدم إبرام الاتفاق سيكون كارثة داخليا وخارجيا، خصوصا لمقرضي "كريدي سويس" من المصارف الأميركية التي تعاني من رفع الفوائد، ما يهدد بإطلاق أثر الدومينو عالميا.
وأضافوا أن الأمر يجب أن يستتبع بنسبة رسملة، وبنسبة سيولة، كما حددها قانون "Too Big To Fail" (أي أكبر من أن يفشل)، وأيضا بنموذج عمل مغاير يتضمن مخاطر محدودة وإدارتها بتحفظ وشفافية تسهل مراقبتها، وبفصل الأنشطة المصرفية على نحو لا يدفع التعسر بإحداها الى انتكاسة عامة.
انتقادات عالمية
لكن سرعان ما صدرت الانتقادات لعملية الاستحواذ، فقيل أنها كانت متسرعة وغير شفافة وانها أدمجت مصرف سيء (bad bank) بآخر جيد (good bank) مع تهميش لمساهمين أساسيين من منطقة الشرق الأوسط لم تتم استشارتهم، وأنه كان من الأفضل اعتماد خيار التأميم، خصوصا أن الميزانية العامة المجمعة للمصرفين ستفوق الـ 1,6 تريليون فرنك سويسري بينما الناتج المحلي الإجمالي لسويسرا يبلغ 800 مليار فرنك سويسري.
على الصعيد القانوني، تركزت الانتقادات على أمريين أساسيين:
• منح الاتفاق الـ"فينما" صلاحية المطالبة بإطفاء سندات دين على ذمة "كريدي سويس"، وهذا الأمر سيكون له عواقب جسيمة. فالمستثمرون سيفكرون كثيرا مستقبلا قبل توظيف أموالهم في سندات مصارف سويسرية.
• مس الاتفاق بضمانة الدستور لحق الملكية وللحرية الاقتصادية المنصوص عليهما في المادتين 26 و27 منه. إذ لا يجوز نزع الملكية أو التضييق في استعمالها إلا في مقابل تعويض عادل وهذا ما لم يحصل بمصادرة حقوق المساهمين في المصرفين بالتصويت على عملية الدمج القسري، وأيضا بفرض سعر شراء وبيع أسهم "كريدي سويس". من شأن ذلك أن يقوض السمعة السويسرية بالحوكمة القانونية والمالية المستقرة، ويكشف تدخل عالم السياسة بعالم الأعمال، ما سيؤثر سلبا على خيارات المستثمرين لتوقعهم إمكانية مصادرة حقوقهم وممتلكاتهم بدون أساس قانوني.
المساءلة والمحاسبة، ركيزتان أساسيتان
في الاجتماع الأخير لجمعية مساهمي "كريدي سويس"، تمحورت النقاشات حول ضرورة تحديد المسؤولين ومحاسبتهم عن إدارة الأمور بمنطق ليس بعيدا عن إدارة "الجريمة المنظمة"، على حد وصف النائب السويسري روجيه نوردمان، وذلك بهدف تحقيق أقصى الأرباح من خلال التشبثت بشراهة ومنذ فترة طويلة باستراتيجية تنطوي على أعلى المخاطر كما والانحرافات.
أولى الدعاوى على "كريدي سويس" أقيمت في أميركا من قبل مساهمين صغار، وكان موضوعها تسبب الادارة بانخفاض قيمة سهم المصرف وعدم التصريح عن أمور خاصة بالوضع المالي يتعين الإفصاح عنها عملا بقواعد إدراج الأسهم في البورصة. وكان الرد ان التقصير يقع في حال كانت المعلومات المعطاة خادعة وغير دقيقة ومغلوطة كما هو الحال في القانون الأميركي، وليس على ما لا يعلن ولا يعرف تأثيره في سعر السهم. أيضا، لا يمكن مساءلة المديرين التنفيذيين السابقين الذين حصلوا على براءة ذمة ومكافآت إلا بالاستناد لعناصر جديدة لم تكن معلومة في السابق ومقرونة بخطأ أو تقصير بليغين، كما لا يمكن المساءلة بكل الأحوال على أساس عدم الكفاءة.
وكان هناك رأي بمخاصمة الـ"فينما" لتقصيرها في الرقابة وفي إلزام "كريدي سويس" بالتدابير الاحترازية المتشددة التي ينص عليها قانون الـ"TBTF"، توصلا لمطالبة الدولة بالتعويض عن الضرر المحقق كما حصل في قرار مجلس الدولة الفرنسي الذي قضى عام 2001 بإعلان مسؤولية الدولة عن الأضرار التي سببها إهمال جسيم من قبل اللجنة المصرفية في ممارسة مهامها الرقابية على أحد المصارف (البنك السعودي اللبناني).
مس الاتفاق بضمانة الدستور لحق الملكية وللحرية الاقتصادية المنصوص عليهما في المادتين 26 و27 منه. إذ لا يجوز نزع الملكية أو التضييق في استعمالها إلا في مقابل تعويض عادل وهذا ما لم يحصل بمصادرة حقوق المساهمين في المصرفين بالتصويت على عملية الدمج القسري، وأيضا بفرض سعر شراء وبيع أسهم "كريدي سويس"
في هذا السياق، تقول مارلين أمستاد، رئيسة الـ"فينما"، إن الأخيرة اتخذت بحق الـ"كريدي سويس" ستة إجراءات صارمة في السنوات الأخيرة لم يتم الإعلان عنها، وأن أداء مؤسستها يمكن أن تزاد فعاليته أولا، بمنحها صلاحيات فرض الغرامات عند المخالفات كمعظم الهيئات الإشرافية والرقابية، وثانيا، بإرساء ما هو معروف بنظام الإدارة العليا حيث تتحدد بمقتضاه مسؤوليات المديرين بدقة. فمن المعروف أنه كانت هناك مشكلة في "كريدي سويس" اعتبرت من الأسباب الأساسية لتعسره، وهي أنه "في كثير من الأحيان، لم يكن من السهل معرفة من المسؤول عن ماذا".
ويلفت البروفسور بيتر كانز، استاذ القانون الاقتصادي في جامعة بيرن الى الواقع الفعلي للـ"فينما" كمركز تدريب متقدم للطامحين للانتقال الى المصارف الكبرى، ما يجعل هؤلاء أكثر ليونة مع هذه المصارف لأنها رب عمل محتمل مستقبلا حتى لمن هم على رأس المسؤولية. فرئيستها أمستاد، عملت في "كريدي سويس" ولا شيء يحول دون تفكيرها بالعودة الى العمل في إحدى المصارف الكبرى عند انتهاء ولايتها، ما يبرر عدم اتخاذها أقسى التدابير الادارية عند اقتضائها.
يطرح القانونيون أيضا احتمالات أخرى للمحافظة على مصالح المساهمين الصغار، تم اللجوء اليها خلال أزمة الرهونات الأميركية، كمخاصمة وكالات التصنيف ومفوضي مراقبة المصرف وحتى المساهمين الأساسيين وغيرهم، إضافة الى مخاصمة الدولة مباشرة، كما حصل مع مستثمرين ساخطين رفعوا 51 دعوى قضائية ضد المنظمين الأوروبيين بالذات بشأن تصفية مصرف "بنكو بوبولار" الإسباني، وهي واحدة من أكبر الدعاوى القضائية ضد الاتحاد الأوروبي.
موضوع انحراف المصرفيين وأثره في اندلاع الأزمات المصرفية، تعرضت له الرئيسة الحالية للمصرف المركزي الاوروبي، كريستين لاغارد، في ندوة نظمها الاحتياطي الفيديرالي في عام 2015، عن الأزمات المصرفية، وكانت حينها المدير العام لصندوق النقد الدولي، فذكرت بأنه "من الضروري تحميل المصرفيين المسؤولية "المدنية والجنائية" عن أفعالهم من أجل ثنيهم عن تبني سلوك مخالف للقانون وعن تحمل مخاطر مالية متهورة" فالرأسمالية لا يمكن ان تعمل جيدا إلا بمعاقبة القرارات السيئة والمتهورة.
كلام يذكر بما قاله قبل قرن من الزمن الرئيس الفرنسي ريمون بوانكاريه عن المصرفيين بأن حريتهم هي دائما موقتة.