المعضلة الدائمة التي تطارد كل دبلوماسي: كيف يمكنه تحقيق التوازن بين المثالية والواقعية... المثالية بمعنى التأكيد على دور المبادئ والقيم الأخلاقية، والتأكيد على أهمية المنظمات الدولية وتبني السبل الدبلوماسية والسلمية في حل النزاعات. أما الواقعية فهي التأكيد على القوة والمصلحة الخاصة والاعتماد على الوسائل العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، سعياً لتحقيق توازن القوى والردع وإقامة التحالفات، والتقليل من دور المنظمات الدولية.
تشحن المثالية الخيال وتساعد على صياغة الرؤية وتفتح آفاقا جديدة للعمل. أما الواقعية فتضمن إمكانية تنفيذ الرؤية، لا في مجملها وإنما على الأقل في تنفيذ أهدافها الأساسية. لكن اسمحوا لي أن أضيف بعجالة أن المثالية تستخدم أحيانا كغطاء لمتابعة أهداف شريرة. كما تستخدم الواقعية لتبرير أعمال وحشية. لذا يغدو تحقيق التوازن بين النقيضين أصعب.
بعد أن تعاملت على نحو مباشر مع المأساة السورية مدة أربع سنوات ونصف السنة، بصفتي نائباً للمبعوث الخاص للأمم المتحدة (2014-2019)، كان لزاماً علي أن أتصارع يومياً مع هذه المعضلة.
وقد استرشدت، وأنا أؤدي مهمتي، بمبدأين.
الأول: مصلحة الشعب السوري في تحقيق تطلعاته إلى الحرية والكرامة الإنسانية والازدهار. وكنت متعاطفا تماما مع هذه التطلعات، وأردت أن أساهم في مساعدة السوريين على تحقيقها. لكنني كنت في الوقت نفسه، على معرفة بالقيود المحلية والإقليمية والدولية التي عقّدت تحقيق رؤيتهم هذه. وأدركت أن مهمتي هي أن أقدم ما هو ممكن في ظل الظروف السائدة. يحدوني الأمل دوما في أن يمضي الأمر إلى الأمام.
والثاني: المساهمة في السلام والأمن في الشرق الأوسط. فهذه المنطقة عالقة في دائرة مفرغة من الأزمات، التي حرمتها من الوصول إلى إمكاناتها الحقيقية. والأسباب كثيرة، بعضها يتعلق بنظام الحكم، والبعض الآخر بسبب التدخل الأجنبي. في هذا السياق كنت وما زلت حتى يومنا هذا مقتنعا بأنه من دون سوريا مستقرة سيبقى السلام والأمن في هذه المنطقة أمرين وهميين. ويذكر عن هنري كيسينجر أنه قال إن من يسيطر على سوريا يسيطر على الشرق الأوسط. ولذا كنت وما زلت مقتنعاً حتى يومنا هذا بأن المصلحة الاستراتيجية لجميع الدول العربية، تقتضي أن تعيش سوريا كدولة وطنية، إنما بعد إصلاحها بما يلبي تطلعات شعبها في حياة أفضل وكريمة.
أنا من أشد المؤمنين بنظام الحكم الديمقراطي. وهذه ليست مثالية. ولكن كما قال ونستون تشرشل فالنظام الديمقراطي مع كل نقاط ضعفه، هو أفضل نظام سياسي. غير أنه لا يمكن ولا ينبغي اختزال الديمقراطية في إجراء انتخابات. إنما هي عملية تترسخ فيها لبِنات البناء التي تشمل القضاء المستقل، وحرية الصحافة، ومجتمعاً مدنيًا ينبض بالحيوية، وسيادة القانون... إلخ.
وإذا أخذنا في الحسبان تاريخ الشرق الأوسط، وعلى الأخص تاريخ الدول العربية، فإن عملية إقامة حكم ديمقراطي ستكون عملية طويلة ومعقدة مع كثير من التقلبات صعوداً وهبوطاً. لكن ينبغي أن يبقى هذا الهدف حيا.