زهور تأكلها النار
كتب الروائي السوداني أمير تاج السر روايته "توترات القبطي" وصدرت عام 2009، ورصد فيها حكاية "ميخائيل القبطي" الذي يقع أسيرا لقائد كتيبة حربية تستولي على مدينته، ويضطر إلى أن يعتنق الإسلام ويتحول اسمه إلى سعد، ويبقى في المدينة لكي يبحث عن خطيبته وحبيبته "خميلة" التي فرقت الحرب بينه وبينها، وبين رحلة البطل في البحث عن حبيبته ورحلة المدينة التي يأكلها دمار الحرب والصراع تدور أحداث الرواية.
بعد أعوام من صدور الرواية يصل للكاتب أمير تاج السر تساؤل من قارئة مهتمة بخلفيات وكواليس تلك الحروب، وآثارها على الناس، لتسأله عن "خميلة" بطلة الرواية الغائبة، ماذا جرى لها؟ وكيف كانت معاناتها وسط تلك الحالة القاسية التي خلفها "جيش المتقي" في المدينة، ويعود أمير تاج السر لبطلة روايته، ويستعيد تفاصيل الرواية، وتلك الأحداث المؤلمة الدامية لينسج أحداث روايته "زهور تأكلها النار"
تمسك "خميلة" بزمام السرد، لتحكي لنا آثار ما تركه جيش "المتقي" في المدينة التي وضع لها تاج السر اسما افتراضيا هو "مدينة السور" تحكي الرواية قصة متخيّلة عن ثورةٍ سمّاها الكاتب «ثورة المتقي» تلك التي استباحت قتل المخالفين لها سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودا، فإنها ولا شك تشير بطرفٍ خفي إلى ثورةٍ سودانية مثيلة وشهيرة هي «ثورة المهدي» التي يبدو أن الكاتب (وللمرة الثانية على التوالي) أراد أن يسير بروايته وحكاياته بعيدا عن أن تكون تأريخا مباشرا لأحداثٍ معروفة، ولعل ذلك ما جعلها صالحة لأن تكون قياسا لما يحدث اليوم على أرض الواقع من خلال جماعات وتنظيمات عسكرية مسلحة، يزعم كل واحدٍ منهم أن له الحق في السلطة والحكم ، بينما يملا الدنيا بالخراب والدمار والقتل!
يقسّم أمير تاج السر روايته أربعة فصول، كل فصلٍ منها يحوي عددا من المقاطع المرقمّة، يأتي الفصل الأول بعنوان "شغفٌ ومدينة" يعرض فيه الحياة الهادئة التي كانت تنعم بها بطلة الرواية "خميلة" وصويحباتها وما تحلم به من علاقةٍ حبٍ مع خطيبها "ميخائيل" عارضا أحلامها وأفكارها وعلاقتها بمجتمع تلك المدينة من حولها، ثم يأتي الفصل الثاني "ليل" الذي تختلف فيه الأحداث وتتصاعد بدءا بالخبر الذي ينقله "ميخائيل" إلى "خميلة" عن تلك الثورة التي بدأت في مدن قريبة من مدينتهم والحرب التي نشأت عنها وتوشك أن تصل إليهم :
"لم يكن حكي ميخائيل حكي خطيبٍ لخطيبة، ولكنه حكي مذعور لواحدةٍ أشد ذعرا منه، كانت ثمة ثورة كبيرة قد اندلعت في مكانٍ قريبٍ من السور، وجياعٌ سموا جهاديين أججهم من سمي "المتقي" قائد الثورة، كانوا ينتهكون القرى بيوتا وحقولا ومساحات رعي، ثمّة قتل وذبح وشهوات مراقة هنا وهناك، وثمة معسكران لا ثالث لهما، معسكر الإيمان، ويمثله المتقي وجماعته التي تأتمر بأمره، وتفتك حتى بآفات الأرض، ومعسكر الكفر الذي نمثله كلنا مسلمون وأقباط ويهود وبوذيون.. ما دمنا خارج جنون الثورة ومشروعها العنيف..".
يأتي الفصلان الأخيران بعنوان "النار"، ثم "النار أيضا" ليعرضا الحال الذي آلت إليه المدينة وأفرادها بعد هجوم جيش "المتقي" على المدينة التي كانت آمنة مطمئنة، يعيش فيها الناس على اختلاف جنسياتهم ودياناتهم في أمان وسلام، ليحولوا كل شيءٍ فيها إلى الدمار ويزهقوا أرواحا برئية ويجهضوا أحلاما كادت أن ترى النور.
تحكي الرواية عن التحوّل المأساوي الذي تعرضت له "خميلة" وزميلاتها اللائي أصبحن مجرد محظيات لأفراد جيش "المتقي" يمتثلن لأوامر "أم الطيبات" التي تسعى لتطهيرهن من الكفر على حد زعمها، فتتغيّر أسماؤهنّ، وتتحوّل "خميلة" إلى "نعناعة"، ورغم استسلامهن للحال التي أصبحن عليها إلا أنهن لا ينجون من المعاملة الوحشية التي تصل إلى قطع رقبة إحدى الهاربات أمامهن حتى لا تفكّر إحداهن في الهرب!
وهكذا يدين أمير تاج السر تلك الحروب التي تقضّ أحلام البسطاء، وتشعل الدمار في بلادٍ تحلم منذ فترة طويلة بأن تنعم بالأمن والسلام، وهو إن كان يتكئ في حكايته على التاريخ إلا أنه ينسج من حولها عالما خاصا به، مستعيدا موروثا من الحكايات والأساطير الخاصة بالمدن والقرى السودانية التي عاش فيها وخبر عالمها جيدا، وهو في هذه الرواية كما في غيرها يجمع باقتدار بين الحكي الشعبي والسرد الروائي، وتبدو روايته رغم قتامة عالمها قادرة على المزج بين الواقعية السحرية وخصوصيتها وبين حكاية الواقع والتعبير عنه وتمثله تماما .