لطالما عشقتُ أبا تمّام هذا الشاعر الكبير من العصر العباسي الثاني، ولطالما قرأته مرات ومرات لا للتطريب ومحسناته اللغويّة وبلاغته (وهو أمير البيان) بل لكونه أكبر ظاهرة شعريّة منذ العصر الجاهلي.
لا أريد التوقّف عند حياته ومراحلها، بل سأحاول ملاقاته بالحداثة الشِّعريّة الفرنسيّة تحديدا والعربيّة عموما.
فهو جدّد في موضوعات الشِّعر فكَتَبَ القديم بروح جديدة فجدّد في المدح (استخدم الصُّور المتحرّكة)، وفي الرثاء من تحويله الرّثاء مدحا، والهجاء والوصف.
وقد ساعده على هذا الاختراق حصيلة ثقافة متنوّعة وواسعة، فقال عنه الحسن بن رجاء:"ما رأيت قطّ أعلم بالشِّعر قديمه وحديثه من أبي تمّام"، ويتمتّع باطّلاع على علوم اليونان والفرس والهند...
كلّ ذلك جعله يكتب القصيدة الأخرى، التي قَسَمَت النّاس بين محبّ لها ورافض: أمّا لماذا اتّخذ كثيرون موقفا سلبيّا من شِعره فالجواب: كلّ جديد غير مألوف يلقى ممانعة، فأبو تمّام رَسَمَ لأوّل مرّة في تاريخ تلك المرحلة مذهبا لنفسه، يبدأ بتجويد المعاني، وتضمينها بالحكمة. طبعا، ليست الحكمة على طريقة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، بل في اغترافه من الفلسفة الإغريقيّة، عبر استدلاله على الأمور بالأدلّة والواقعيّة، المدعّمة بالأفكار. وهذا بالذات ما أدّى إلى التعقيد أحيانا، ولكن أيضا لاستخدامه بإفراط المحسنات اللفظيّة وعناصر البلاغة العربيّة.
يرى البعض أنّ الفكر يغلب على شِعره وكذلك المنطق. بل وجعل هذا بعضهم يقول: "أبو تمّام والمتنبّي حكيمان والبُحتري هو الشاعر".
لكن لا نرى هذا المقال، فإنّ العمق الفكري والاستدلالي، حمل أبا تمّام على اللّجوء إلى "الجماليّة" الشكليّة المركّبة، لا ليصل إلى المعنى فحسب، بل إلى الإيحاء به، عبر الصُّور وكيميائيّة التراكيب في الكلمات والجُمل والإيقاعات. وقد التبس الأمر عند كثيرين، فأخذوا عليه كثرة استخدامه المحسنات وكذلك التعقيد. وهنا نرى أنّ لا تناقض بين الاثنين لأن المجانيّة اللفظية (الجماليّة) التي اتُّهم بها، ما هي إلا تجنّب المباشرة، ونثريّة البلاغة السائدة.
حمل العمق الفكري والاستدلالي، أبا تمّام على اللّجوء إلى "الجماليّة" الشكليّة المركّبة، لا ليصل إلى المعنى فحسب، بل إلى الإيحاء به، عبر الصُّور وكيميائيّة التراكيب في الكلمات والجُمل والإيقاعات
من هنا نقول إنّ أبا تمّام نَقَضَ البلاغة بالبلاغة، وتلاعب بالعمود الشعري (أو عبث به)، لتقديم قصيدة تُغاير ما قبلها عند العرب، مما حدا ابن الأعرابي أن ينكر عليه شاعريته نفسها عندما قال عندما سمع شعر أبي تمّام: "إذا كان شعرا فما قاله العرب باطل".
نقطة أخرى هامّة: لم تعد قصيدته تكتفي بإنشادها (أي قصيدة شفويّة) بل باتت قصيدة مكتوبة إلى عدّة قراءات لاستيعابها أو لتذوّقها الرمزية. وهذه ناحية جديدة على البلاغة العربيّة التي بعناصرها البيانيّة (الطّباق والجِناس والتشابيه) وبشكل أساسي وضوح المعنى، لا التعقيد، ولا الإبهام. إذن خرج أبو تمّام على "البلاغة" التقليديّة الواضحة إلى ما يُسمى اليوم في حركة الشِّعر الحديث الممتد من بودلير إلى مالرمه وصولا إلى فاليري، واستخدام الرّمز بالصورة أو بالتركيب يؤدّي إلى الغموض، لأن استخدام الرمز بالصورة يوحي ما وراء النصّ لا المعاني المباشرة. وهذه بالذّات ما تجاوز المدرسة الرومانطيقيّة الفرنسيّة: أي فكتور هيغو، ولامرتين... والرومانطيقيّة الإنكليزيّة كيتس وبايرون...
وإذا كان لنا أن نتناول مسألة البُحتري واعتباره هو الشّاعر وأبي تمّام الحكيم، فلأنه تجاوز البُحتري "الرومانسي" (المتقدّم) إلى الرمزيّة، فالرومانسي عموما مباشر يستلهم شِعره من "ربّة الشِّعر" فلا يخنه؛ أو لا يغيّره: لأنّ القصيدة تنزل كاملة عليه مثل الطفل الذي يولد من بطن أمّه.
وهذا يناقض تعامل أبي تمّام مع قصيدته: فالأدوات البلاغيّة والمعاني هي مواد أوليّة عليه اختبارها، وبناؤها، والعمل عليها؛ من هنا بالذات نفهم لماذا فضَّل كثير من الناس البُحتري على أبي تمّام لأنّه احترم عناصر البلاغة ولم يعبث بها مثل أبي تمام الذي عبث بالوضوح نفسه، واضعا لأوّل مرّة مسألة الغموض في الشِّعر العربي، وكذلك مسألة النخبة: هناك الجمهور العريض الذي يكتفي بصناعة تخضع لِما هو موجود من أساليب وطُرق، وهناك النُّخبة: أي طرحه لأوّل مرّة في الشِّعر العالمي هي مسألة فصل الجمهور العادي عن النخبوي.
ويكفي أن نورد: سأله ناقد متمسّك بالقديم هو أبو العميثل: "يا أبا تمّام لِمَ تقول ما لا يُفهم؟" فأجابه أبو تمام: "لماذا لا تفهم ما يُقال".
ردّه هذا يدلّ على وعي أبي تمّام لما يقوم به ويجترحه... ومثل هذا الردّ لم يكن مطروحا عند شعراء الحداثة الغربيّين، لا في السنوات التي سبقت الرمزيّة الفرنسيّة، مثلا عن دوبليه، ورونسار، وحتى عند الناثر الشعري شاتوبريان... ولا في الشِّعر العربي منذ بداياته التجديديّة مع أحمد شوقي وخليل مطران والأخطل الصغير وبدوي الجبل... لكنه وَرَدَ عند سعيد عقل الذي تأثّر بأبي تمّام وكذلك بالرمزيّة الفرنسيّة أي بمالرمه وبول فاليري.
القصيدة ذات البُعد الواحد لا تتحمّل سوى قراءة واحدة... وهذا ما لا نجده عند أبي تمّام: بلاغة معدّلة بصُورها وتراكيبها الغريبة تحتاج إلى مراجعة دائمة، لأنّها تجاوزت القصيدة الشفويّة التلقائيّة إلى القصيدة المكتوبة
ولا يمكن أن ننسى أنّ المتنبي، هذا الشاعر الكبير، تأثّر بأبي تمّام تأثيرا بالغا، سواء بِبُنية قصيدته المتماسكة، أو بالحكمة، يعني أنّ أبا تمّام هو رائد القصيدة الحديثة الرمزيّة بطوابعها الفكريّة والجماليّة والإيحائيّة. فالشاعر الكبير بول فاليري هو مفكّر فرنسي وأوروبي كبير، ضمن أفكاره وحالاته بطريقة رمزيّة كأبي تمّام. فالفكر أحيانا يُوقع الشِّعر بالنثريّة والمباشرة، أو ينقل أحيانا كلّ صُورها، لكن، الترميز والصُّور المفتوحة التي تؤدّي إلى الغموض، تدعم القصيدة بشعريّة عميقة تحتاج إلى عدّة قراءات... إمّا لتذوّقها أو لاختراق معانيها وحالاتها. وهنا بالذات نجد هذا التنوّع في قراءة القصيدة. كلٌّ يفهمها بحسب ثقافته، واتّجاهه، ومخزونه الشِّعري...
فالقصيدة ذات البُعد الواحد لا تتحمّل سوى قراءة واحدة... وهذا ما لا نجده عند أبي تمّام: بلاغة معدّلة بصُورها وتراكيبها الغريبة تحتاج إلى مراجعة دائمة، لأنّها تجاوزت القصيدة الشفويّة التلقائيّة إلى القصيدة المكتوبة التي تحمل مجازاتها الخاصّة أي ما يُسمى ما وراء القصيدة!
بهذا المعنى، نحتفل بهذه المقالة ذات الحيّز المحدود بأبي تمّام رائد القصيدة الحداثيّة في الغرب وفي بلاد العرب.