كيف أثّر الأدب العربي في تكوّن الشعر الأوروبي؟https://www.majalla.com/node/290016/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A3%D8%AB%D9%91%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%83%D9%88%D9%91%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%9F
الرياض: لم تكن تلك اللحظة حدثا عابرا في التاريخ، حين تفتقت قريحة أسياد اللغة العربية، عباقرة الشعر وأساطين الأدب، فأنتجت لنا المعلقات الخالدة التي بلغت أقصى درجات الجمال، وذروة البهاء، ومنتهى نضج لغة الضاد، حتى غُمست حروفها بماء الذهب، وعُلّقت أبياتها على أستار الكعبة، أشرف منزل، وأطهر مكان.
لم تكن تلك مجرد كلمات، أو أبيات يتناقلها الكبار والصغار، بل كانت حدثا هائلا انطلق من أرض الجزيرة العربية، وسيدوّي بأثره الكبير في اللغات والآداب العالمية، ويقدم إلى العالم "الشعر العربي" حاملا أسمى معاني الحب، والفروسية، وأخلاق الشجعان.
أطلقت السعودية على 2023 اسم "عام الشعر العربي"، احتفاء بالدور الحضاري والقيمة المحورية للشعر في الثقافة العربية، وتأكيدا لمكانة الجزيرة العربية ودورها في نشأة الشعر العربي ونهضته
معجزة عربية
لهذا وقف المستشرق الفرنسي إرنست رينان مذهولا مندهشا أمام تلك اللحظة فكتب قائلا: "إن ظهور اللغة العربية ليعتبر من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وأصعب الأمور التي استعصى فهمها. كانت هذه اللغة غير معروفة أول الأمر، لكنها بدت فجأة على غاية الكمال بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل فليس لها طفولة ولا شيخوخة".
يوافقه مواطنه لويس ماسينيون في مقدمته لكتاب "المعجزة العربية"، ممتنا للأثر الكبير الذي صنعته اللغة العربية في الفكر الأوروبي فحررته من موروثات العصر اليوناني، إذ "استطاعت هذه اللغة أن تنمي القدرة السامية في التعبير عن الفكر المجرد، وفي التركيب اللغوي الموجز الذي سمح بتركيز وضبط نتائج الباحثين التجريبية إلى جانب أبحاث الأطباء والرياضيين ومكتشفي الأرض، والأحلام وأسرار النفس الإنسانية.
إن المنهج العلمي في الحضارة الغربية قد تخلص بواسطة العربية من المثال الكروي والهندسي الوثني لأشكال مغلقة حبست العلم اليوناني ردحا طويلا من الزمن، كما تخلص من الخطوط التي تضاف إلى حل المعادلات الرياضية باستعمال الصفر، ومن المضلع بالزخرفة". لهذا ينادي ماسينيون قائلا: "إن البعث الدولي للغة العربية عامل أساسي في إشاعة السلام بين الأمم في المستقبل، فهي لغة الحرية العليا، ووحي الحب، والرغبة والخشوع لله".
في هذه السنة تحتفل السعودية بأعظم تجليات اللغة العربية، وأجمل صورها، "الشعر العربي" الذي حلق بأجنحته عاليا في فضاءات العالم، وأدخل من سحره، وعميق آثره في لغات الأرض وآدابها. حيث أطلقت السعودية على العام الحالي 2023 اسم "عام الشعر العربي"، احتفاء بالدور الحضاري والقيمة المحورية للشعر في الثقافة العربية، وتأكيدا لـ"المكانة الحضارية المهمة للجزيرة العربية، ودورها في نشأة الشعر العربي ونهضته الكبرى التي جعلت من هذا الفن البديع ديوانا للعرب، ومجنى لثمر العقول، ببحوره وفنونه وأساليبه وقصائده، التي وثقت المعاني الجليلة، ونقلت مآثر العرب، وصاغت مشاعرهم وأفكارهم وتطلعاتهم نحو الخير والحياة والجمال"، في رسالة أساسها إحياء تاريخ الشعر العربي العريق، وبيان أثره في الحضارة الإنسانية، ومكانته المستحقة بين آداب العالم وفنونه.
من أعمق الآثار التي تركها الشعر العربي في آداب العالم، مساهمته في تكوّن الشعر الأوروبي، وتأسيس انطلاقته الأولى التي استند فيها إلى فن القافية العربية، واستلهم مبادئ الشعر العربي وروحه وقيمه وتقاليده. حيث يذكر غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" أن هذا الأمر قد "بلغ درجة الثبوت في أيامنا، فالأوربيون اقتبسوا فنَّ القافية من العرب، ودلَّت مباحث فياردو وغيره من الكتَّاب الكثيرين على هذا الأمر الذي كان الأسقُف هُويهِ قد بيّنه منذ زمن طويل. ويُعزَى مصدرُ الشعر الإسباني والشعر الپروفنسيِّ إلى ما كان لشعراء عرب الأندلس من التأثير، ويلوح لي هذا الرأي قويما كالرأي السابق".
"كان من حب العرب للشعر أن صاروا يؤلِّفون كتبَ التوحيد والفلسفة والجبر نظما، ومن يُطالع قصصهم يَرَ أكثرها ممزوجا بقِطعٍ شعرية"
غوستاف لوبون
عمق الحضور
لا يفوت لوبون أن يشير إلى عمق حضور الشعر في حضارة العرب، الأمر الذي أهّلهم أن يبلغوا هذا المدى من التأثير، فلقد "داوم العرب على قَرْضِ الشعر دوامَ حضارتهم، وكان يَقْرِض الشعرَ كل رجل مثقف، سياسيا كان أو فلكيّا أو طبيبا، ولم يكن لغوا قول بعضهم: "إن العرب وحدهم قرضوا من الشعر ما لم تقرضه أممُ العالم مجتمعة"، وكان من حب العرب للشعر أن صاروا، في بعض الأحيان، يؤلِّفون كتبَ التوحيد والفلسفة والجبر نظما، ومن يُطالع قصصهم يَرَ أكثرها ممزوجا بقِطعٍ شعرية".
لكي نتتبع أثر الأدب العربي في تكوّن الشعر الأوروبي، اطلعت على مبحث نفيس للفيلسوف والباحث الكبير عبد الرحمن بدوي، في كتاب له بعنوان "دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي"، حيث عقد فصلا بعنوان "أثر الأدب العربي في تكوّن الشعر الأوروبي" مشيرا في مطلعه إلى أن مسألة تأثير الشعر العربي في نشأة الشعر الأوروبي الحديث في إسبانيا وجنوب فرنسا هي من المسائل التي تشغل كثيرا بال الباحثين المعاصرين، خصوصا أن هناك مواد عدة جديدة تضاف كل يوم لتؤكد هذا التأثير، بل ولتثبت أن الشعر العربي الأندلسي في الموشحات والزجل قد انطوى على المرحلة الأولى من الشعر الإسباني نفسه، حيث كان الزجل الأندلسي في أواخر عهود الأندلس يُكتب باللغة الإسبانية الدارجة الرومنسية، مما يعني أن هذا كان بمثابة النموذج الأول للشعر الإسباني.
ونظرا إلى أن فنَّي الزجل والموشح في الأدب العربي كانا محببين لعامة الناس، وأسرع في الذيوع والانتشار، فقد آثر شعراء كثيرون استخدام هذا اللون من النظم لسهولة تناوله وقرب طريقته، حتى استظرفه الناس جملة، الخاصة والعامة، وتفنن فيه كبار الأدباء، من أشهرهم ابن عبد ربه صاحب "العقد الفريد"، وابن زهر، وابن سهل، ولسان الدين الخطيب مؤلف "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وصاحب الموشح الشهير الذي نتداوله إلى اليوم: "جادك الغيث إذا الغيث هما... يا زمان الوصل بالأندلس".
من هنا يقول بدوي: هذان النوعان من النظم اللذان ابتكرهما أهل الأندلس هما اللذان أثرا في نشأة الشعر الأوروبي، وأول من قال بهذه النظرية هو خليان ريبيرا، المستشرق الإسباني الذي عكف على دراسة موسوعة الأغاني الإسبانية، ودواوين شعر "التروبادور" و"التروفير" وهم الشعراء الجوالة في العصر الوسيط في أوروبا، و"المنيسنجر" وهم شعراء الغرام، فانتهى من دراساته المستفيضة هذه إلى أن الموشح والزجل هما "المفتاح العجيب الذي يكشف لنا عن سر تكوين القوالب التي صُبت فيها الطرز الشعرية التي ظهرت في العالم الأوروبي في العصر الوسيط"، وأثبت انتقال بحور الشعر العربي والموسيقى العربية إلى أوروبا.
ذلك أن شعراء التروبادور الذين ينتمون إلى إقليم البروفانس في جنوب فرنسا استخدموا أقدم قوالب الزجل الأندلسي، كما يظهر عند أول شاعر منهم وهو غيوم التاسع، دوق اكيتانيا، الذي يعد أيضا أول شاعر في اللغات الأوروبية الحديثة، وقد بقي من شعره إحدى عشرة قصيدة، منها خمس كتبت بعد 1102م، وتتألف القصيدة عنده من فقرات تشبه في قالبها فقرات الزجل العربي. ثم انتشر هذا النمط من النظم في الشعر في أوروبا، بل نجده في الشعر الديني الكنسي الذي ألّفه الأدباء الفرنسيسكان في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وفي أغاني الكرنفالات الأوروبية في القرن الخامس عشر.
"لم يُصَب شعب من موهبة الشعر الإلهية بقدر ما أصاب الشعب العربي منها، فكان من ولوعه بالشعر ومن ثقافته التواقة إلى الحرية والبطولة ما وسم شعره بطابع خاص كان شعاره منذ ظهوره"
فرنسيسكو فيلاسباسا
روح الفروسية
لهذا قال فرنسيسكو فيلاسباسا شاعر الإسبان لهذا العهد: "لم يُصَب شعب من موهبة الشعر الإلهية بقدر ما أصاب الشعب العربي منها، فكان من ولوعه بالشعر ومن ثقافته التواقة إلى الحرية والبطولة ما وسم شعره بطابع خاص كان شعاره منذ ظهوره، وما انتصار الإسلام الباهر إلا انتصار للشعر العربي أيضا... وإن روح الفروسية التي سادت القرون الوسطى، وأحالت همجية الحروب إلى مداعبات على ظهور الخيل في ميادين الألعاب وأنتجت من الحب أدبا عاليا، ومن المرأة صنما معبودا، لهي روح خلقها الشعر العربي، وحملها إلى العالم على أجنحة موشحاته، فعم العالم الأدب المنمق الجميل الذي سبق الحركة الرومنطيقية ببضعة أجيال، ولئن كان للشعر العربي هذا التأثير في العالم، فأحرى به أن يكون في إسبانيا أشد بلوغا منه في غيرها. فاللغة العربية ما برحت تمد معجمنا بما ينيف عن ربع مفرداته، كما أن أنوار آدابها ما فتئت تلهب مخيلاتنا بأشعتها، وتسعر دماءنا بحرارتها، دافعة بنا إلى مجازفات تنطوي على جِنة، تراها ماثلة أي مثول في حكايات دون كيشوت وأضرابه من الفرسان، وقد تأثر جل أدبنا الروائي وشعرنا بما اندمج فيه من الأسلوب العربي المحض، حتى إن أوزان التفاعيل الثمان، هي في الأصل بحر اتخذه شعراؤنا، ونظموا به على قافية واحدة، تتكرر في جملة الأبيات على نحو ما هو مألوف في الشعر العربي".
تلك كانت لمحة مختصرة، وشواهد عجلى عن رحلة الشعر العربي، وأثره في آداب أوروبا، ودوره في تأسيس الشعر الأوروبي الحديث. لكن القصة طويلة عميقة، بالغة الأثر والتأثير، تتجاوز القوالب والتراكيب الفنية، إلى معاني الفكر، وقيم الفروسية، ومبادئ الحب النبيل. فالشعر العربي كان متينا قويا بتراكيبه وقوالبه، وفي الوقت نفسه غزيرا بمعانيه وقيمه ومبادئه، وإبداعه، وسمو أفكاره. وتلك صفحة أخرى من آثار الأدب العربي في ثقافات العالم.