لظروف لا يتّسع المجال للوقوف عندها، ترعرع مفهوم الحوار في حضن ميتافيزيقا الذاتية وابستمولوجيا الحقيقة. على هذا النحو تحدَّد الحوار أداة يتخذها طرفان يسعى كل منهما لأن يقربالآخر مما يعتقده هو حقيقة، افتراضا أن الحقيقة قائمة قبل الحوار، وأن هذا ليس إلا "مسرحة" لغوية تُمكّن الذوات المتحاورة من أن تتقارب في ما بينها باقترابها من الحقيقة. الحوار بهذا المفهوم، لا يُولّد حقائق، وإنما يؤدي إلى حقيقة، إلى الحقيقة. وهو لا يُبعد ولا يُباعد، وإنما يقرّب ويقارب. ثم هو طريق المهادنة والسلم والوفاق، وهو أخيرا تفاعل بين ذوات متكلمة، أي أفراد يتخذون الكلام تعبيرا عن أفكارهم.
هذا هو المفهوم الذي يعتمده الفيلسوف كارل بوبر عن الحوار، فهو يرى أننا "عبر تفاهمنا حول الأمور بشكل عقلاني، قد نصل إلى تصحيح بعض أخطائنا، وربما ندنو من الحقيقة". فبما أن التفاهم العقلاني يتم عبر التخاطب والحوار، و"بما أن واحدة من وظائف اللغة الأساسية، من وجهة نظر البحث عن الحقيقة، تكمن في أنها تجعل الأفكار موضوعا ممكنا للنقد، حتى ولو لم يكن ثمة أيّ شخص آخر حاضرا"، بما أن البلورة الكلامية والتجسّد في اللغة من شأنهما أن يموضعا المعاني، يغدو التفاهم منصبّا على الخطأ والصواب دون الاهتمام بمن هو المخطئ ومن هو المصيب. كأن بوبر يريد أن يقول إن الحوار يحقّق مسرحة لغوية تجعل الذوات المتحاورة مغيّبة، فيحضر الخطأ من غير أن يمثل المخطئ. لكن الأهم من ذلك، هو أن الحوار ليس مُوَلدا لأسئلة. مهمته لا تكمن في الحفر والتشكك والتردد وخلق المسافات، لا تكمن في إثارة مزيد من الخلافات، وإنّما في التقريب من الحقيقة والبحث عما يجمع ويؤلّف ويؤالف.
كل متحاور يزداد قربا من الآخر كلما ازداد بعدا عن نفسه. هنا يغدو الحوار، ليس مفعول أطراف، ولا هو بالضرورة مواجهة مع الآخر، وإنما أيضا مواجهة مع الذات
بيد أن الرجّة التي عرفتها الإبستيمولوجيا المعاصرة، والتي كانت من نتائجها إعادة الاعتبار إلى مفهومات الخطأ وسوء التفاهم واللاشعور، دفعت إلى فضح البنية الميتافيزيقية للحوار، والنظر إليه، لا على أنه طريق محفوف باليقينيات والتوافقات، ولا على أنه طريق التقارب والإجماع، وإنّما من حيث هو أساسا طريق الأخطاء والاختلافات، طريق التباعد والخلاف.
لا عجب إذن أن يذهب مفكر مثل جيل دولوز إلى الاستخفاف بالمفهوم المتداول عن الحوار. فهو يرى أن"من الصعوبة بمكان أن 'يفصح المرء عن نفسه' في استجواب أو حوار أو مقابلة. عندما يُطرح عليّ سؤال، حتى ولو كان يعنيني، ففي أغلب الأحيان أتبيّن أن ليس لديّ ما أقوله. الأسئلة تُنتَج وتُولّد مثل كلّ شيء. وإذا لم تُترَكْ لإنتاج أسئلتك وحدك، عن طريق عناصر آتية من كل حدب وصوب، ومن أيّ مكان، إذا "طُرحت" عليك الأسئلة طرْحا، لا يكون لديك ما تقوله مما له شأن. إن فنَّ بناء الإشكال، فنٌّ شديدُ الأهمية: فنحن نبتكر إشكالا وكيفية لطرح الإشكال، قبل أن نعثر على حلّ. لا شيء من كلّ هذا يتمّ في استجواب، في حديث، وفي نقاش. حتى التفكير على انفراد، أو مثنى أو جماعة ليس بالأمر الكافي. التفكير على الخصوص. أما الاعتراضات، فأدهى. كلما وُوجِهتُ باعتراض، تحدوني الرغبة في القول: 'وعليه، وعليه، لننتقل إلى أمر آخر'. الاعتراضات لم تفد قطّ في شيء. الأمر نفسه عندما يُطرح عليّ سؤال شديد العمومية. ليس الهدف أن نجيب عن أسئلة، وإنما الهدف هو الخروج، الخروج منها".
ربما يكفينا أن نتوقف قليلا عند مجرى الحوار الفلسفي ذاته لتبين كل ذلك، ولنتذكر في هذا الصدد المناخ الذي يطبع المحاورات الأفلاطونية في مختلف مراحلها حيث نتبين أنه كلما تقدم الحوار فإن شعورا بالعجز أمام "شيء ما "يجعل الحوار يتعثر، بل إنه قد يوقفه ويؤزمه. على رغم ذلك فإن ما ينبغي الإلحاح عليه هو أن النقاط التي يتعثر عندها الحوار، ويحار عندها الفكر، غالبا ما تكون هي بالضبط نقاط الالتقاء. ذلك أن النقاط التي يتبلور عندها التعثر و"يتوقف"الحوار، أو على الأقل يتأزم، لا تفرّق بين المتحاورين، وإنما بين الفكر وبداهاته، بين الفكر ومسبقاته، أو لنقل بين الفكر وبين نفسه وهو يسعى إلى الانفصال عنها: أي النقاط التي تسوّي جهل الجاهلين بمعرفة العارفين. وتلك بالضبط هي اللحظة التي يتوخاها سقراط في محاوراته. فكأن المسافة بين المتحاورين تزداد قربا كلما ازداد بعدهم، لا بعضهم عن بعض، بل عن ذواتهم.كل متحاور يزداد قربا من الآخر كلما ازداد بعدا عن نفسه. هنا يغدو الحوار، ليس مفعول أطراف، ولا هو بالضرورة مواجهة مع الآخر، وإنما أيضا مواجهة مع الذات، ويصبح توترا بين الذات وبين نفسها، يغدو حركة ذاتية تسعى الذات عن طريقها لأن تنفصل عن نفسها وتنفلت من التنميط بغية إحداث الفروق وخلق الاختلافات. فكأن الالتقاء بين أطراف الحوار لا يتم إلا عند نقاط افتراق، وكأن الاتصال بينها لا يتم إلا عند نقاط انفصال: نقاط التأزم والتأزيم التي يتحرر عندها الفكر من يقينياته ويتخفف من "حقائقه". إنها النقاط التي يغدو عندها أطراف الحوار"في الهمّ سواء"، وليس أي همّ، بل الهمّ الفكري "الذي تتحول فيه الأشياء التي تبدو معروفة إلى أشياء تكون أهلا للمساءلة"،على حدّ تعبير هايدغر. بناء على ذلك فإن كان ولا بد من الحديث عن التراضي كمرمى للحوار، فإنه التراضي حول الأسئلة، التراضي حول شق السبل وفتح الآفاق، التراضي لا حول ما يُطمْئِن ويُرْضي، بل التراضي حول ما لا يُطمْئِن وما لا يُرضي.
نتبين إذن أن الحوار ليس هو الوسيلة التي أجرّ عن طريقها الآخر نحوي لكي ننجرّ معا نحو الحقيقة، وأنه ليس أداة وئام وتوافق، وإنما طريق انفصال وتباعد، وهو طريق لا يخلو من عثرات وأزمات بله صراعات ومقارعات. إلا أن المفارقة هنا هي أن هذا التباعد وذاك الانفصال، هما أكثر الوسائل ضمانا نحو التقارب والوصال. فكأن سوء التفاهم غدا هو الطريق الأضمن نحو كل تفاهم.
إضافة إلى ذلك، فإن مسرح الحوار ليس هو اليوم على الخصوص مجال تفاعل أفراد، وإنما هو تفاعل ثقافات. فالفواعل المقصودة هنا فواعل تاريخية، وليس الحوار المقصود مجرد تبادل الكلام بين أكثر من طرف بغية التوصل إلى حد أدنى من التراضي. إن الحوار بالأولى هو حركة التاريخ العظمى التي تجعل الثقافات تسعى للسير على الدرب نفسه. لا يعني ذلك أنها تجبرها على إتباع درب خُطِّط من قبل وما على الأطراف إلا انتهاجه، وإنما أنها تستدعي مساهمة أكثر من طرف في شق دروب الفكر. بناء على ذلك فإن كان ولا بد من الحديث عن الوفاق والالتئام والتراضي كمرمى للحوار، فإنه التراضي حول شق السبل وفتح الآفاق. كأن الحوار أداة لرفع سوء التفاهم، لكن ليس أساسا بين الذات وبين الآخر، بل بين الذات وبين نفسها، بين الثقافة وبين نفسها.
لا يتوقف الحوار على صدق المتحاورين ونزاهتهم وحسن نيتهم، فهو حرب على مستوى اللغة، إنه صراع مقنّع عن طريقه يفرض نفسه ذاك الذي سيحدد المعاني وسيطرح الإشكالات وسيعرّف المفهومات وسيعين الحقائق
وحتى المقابلة ذاتها التي توضع عادة بين لغة الحوار ولغة المدافع من حيث إن الأولى لا تسودها علائق القوة التي تطبع الحروب، حتى هذه المقابلة تتناسى أن اللغة، التي هي أداة كل حوار، هي مرتع تناحر القوى ومجال مفعولات السلطات، إنها عشّ الاختلاف وميدان علائق القوة بامتياز. فأن تطلق الأسماء هو أن تمارس سلطة، أن تطلق الأسماء "هو أن تكون سيّدا"،على حدّ تعبير نيتشه. استراتيجية التسمية هي استراتيجية هيمنة وتسلط. وتاريخ الأشياء هو تاريخ أسماء، وتاريخ الأسماء هو تتابع القوى المستحوذة التي تعطي المعاني وتحدد القيم. اسم الشيء هو القوة التي تستحوذ عليه وتتملكه. وما الكلمات سوى "كميات من القوة في علاقة توتر"، ولا يمكن للحوار الذي يوظفها ويستثمرها إلا أن يجسد علائق القوة ومرامي التسلط والهيمنة.
لا يتحدد الحوار إذن بآليات منطقية ودوافع أخلاقية، وهو لا يتوقف على صدق المتحاورين ونزاهتهم وحسن نيتهم. فهو حرب على مستوى اللغة، إنه صراع مقنّع عن طريقه يفرض نفسه ذاك الذي سيحدد المعاني وسيطرح الإشكالات وسيعرّف المفهومات وسيعين الحقائق. على هذا النحو فإن الحوار لا يرمي إلى أن يحقق الحد الأدنى من التفاهم، وإنما يهدف، على العكس من ذلك، إلى أن يبين أن ما يعتبر مصدر رضا، وأن ما يقدّم كنقاط التقاء قد يكون نقاط انفصال، وما يعتبر تفاهما قد ينطوي على سوء تفاهم. إلا أنه ليس بالضرورة سوء تفاهم بين أطراف متحاورين، بل قد يكون أساسا سوء تفاهم الثقافة مع نفسها، سوء تفاهم ذاتي، وربما تيها وضلالا كونيا.