نمر بورخيس
وإذا كانت الأساطير والنظريات العلمية وإعادة صياغتها أدبيا الشغل الشاغل لمحمد رفيع في مجموعته، فإن الكاتب العراقي ضياء جبيلي يركز في مجموعته القصصية "النمر الذي يدعي أنه بورخيس" على تفاصيل أخرى يمزج فيها الواقعي بالفانتازي، وينطلق من خلالها إلى رصد علاقة الإنسان بما حوله من جهة، وعلاقة الكاتب بشكل خاص أيضا بعالمه، فنجده يستحضر الجمادات سواء كانت قديمة من الطبيعة أو مستحدثة من اختراع الإنسان كالأجهزة والآلات والدمى، ويقدم من خلالها رؤيته الفانتازية المغايرة، نقرأ في قصة "عش الزوجية":
"كنت ما أزال أعاني من فرط التخيل، وهي حالة متعبة لا أعرف إن كانت ناتجة عن مرض نفسي ، عندما قررت الارتباط بحبيبتي رسميا، بعد طول انتظار دام لسنوات.أكثر عبارة سمعتها في تلك الأثناء وعانيت منها هي «عش الزوجية»، ومع أن الأمر كان متعلقا بالأغصان، بدأت الفكرة تأخذ بعدا آخر، لا شأن له بعالم الطيور وأعشاشها، فرحت أتخيلني قندسا يجمع الأغصان، قبل أن يتحول هذا الخيال إلى واقع. لا يعني هذا أني صرت قندسا بالفعل، لا يحدث ذلك إلا في القصص، إنما شرعت بالتقاط الأغصان في كل مكان أجدها فيه، حتى جمعت منها كمية كببرة قمت بتكديسها في الحديقة".
ويستحضر جبيلي شخصية الكاتب/الأديب وعلاقاته بكتابات الآخرين وعوالمهم، فيحضر ماركيز وكالفينو وغوغول ويقيم حوارا أدبيا متخيلا بين عدد من كتاب روسيا، بل وتعجبه اللعبة فيتحدث بشكل فيه مع الفانتازيا قدر من الطرافة في قصة مثل "حيوانات المكتبة" التي يرصد فيها "الحيوانات" التي تحضر في عناوين بعض الكتب:
"الكتب تعض ..فعلا، كيف للكتب أن تفعل ذلك؟ عدت لأسأل نفسي، وأنا في طريقي إلى المنزل. فكرت أنها الفئران حقا، هي من فعل هذا. لكنها ليست الفئران التي نعرف، ولكي أتأكد أكثر، عدت إلى الكتاب العضّاض، الذي سبق وأن قضم إبهامي قدميّ، فذُهلت حينما اكتشفتُ أنها رواية لجون شتاينبك عنوانها 'الفئران والرجال'.
ونجده في قصصٍ أخرى يركز على "الأمهات" جاعلا من تفاصيل حياتهن عالما خاصا، فيتحدث عن صمتهن وروائحتهن وإيمانهن بالغيب، وكيف يشكلن حياة أبنائهن ويؤثرن فيهم، لا سيما فيما يبثثنه إليهن من حكايات تنمي ملكة الخيال، ذلك الخيال الذي يعتبره جبيلي في قصة أخرى "كائن حي" يحتاج إلى تغذية كي ينمو ويكبر، وما تلك القصص سوى غذاء مثالي للفكر والعقل لكي ينمو الخيال ويستطيع المرء من خلاله أن يتغلب على صعاب حياته.
هكذا يتمثّل ضياء جبيلي عوالم الفانتازيا، ليدور بنا حول أكثر من فكرة وطريقة، وهو الأمر الذي نجده في الكثير من مجموعاته القصصية، إذ هو مشغول دوما بهذا الجمع الثري بين الواقعي والفانتازي، والملاحظ أن كل هذه العوالم تحضر في قصصه كأنها أمر طبيعي ومعتاد!