هل يكتب الإسبان عن الأندلس مثلما نكتب نحن العرب عنها كمدن بناها أجدادنا بمعمارها وإنسانها وآدابها وعلومها وقصصها... بلغة عاطفية تأخذنا إلى تاريخ مدهش وأنيق، وكيف لهؤلاء الآباء صناعة كل هذا الوجود الحر والثري؟
الإسبان اليوم، وخاصة المؤلفون والمؤرخون من أصحاب الهوية الإسبانية "النقية" (المتعصبة) يتساءلون عن هويتهم الأندلسية اليوم، ومنذ العصور الوسطى، هل هناك دليل على أصالتها وخاصة في شبه الجزيرة الإيبيرية؟
يتساءلون وهم يعلمون أنها كانت منطقة جغرافية مشتركة بين مجتمعين مختلفين، لكن لا يوجد أي دليل أكاديمي وبحثي يُعرّف كلا المجتمعين بأنهما متمايزان، بالطبع هناك جانب من الاختلافات بينهما، لكن العناصر المشتركة هي التي تغلب. كما لا توجد دراسة إسبانية قديمة تستخدم العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية عند تقييم خصائص كل منهما.
صحيح أنه اكتُشفت بعض النقوش القديمة والكتابات القليلة مثل عبارات عن اتحادات تجارية في بداية عهد الأندلس الإسلامي صكّت في عام 98 للهجرة، 716 ميلادي، لكن بين التاريخين الإسلامي الذي يتبع حساب القمر، والمسيحي الذي يتبع حساب الشمس، لا كتابات أخرى عن هوية المكان والنظام بين المجتمعين سوى الكتابات العربية الأندلسية التي وثقت كل التفاصيل. وبقيت لدى الإسبان فكرة المساحة الأندلسية تسيطر عليها كتابات العرب والمسلمين حصريا لتشكل حيزا عميق الجذور في التقليد التاريخي الذي أصبح أكاديميا، وحتى في العصر الحديث سيطرت الأندلس على كتابات الإسبان بهوية عربية، لم يستطيعوا تنقيتها، رغم مرور قرون على طرد العرب، فَلِمَ يا ترى؟
بقيت لدى الإسبان فكرة المساحة الأندلسية تسيطر عليها كتابات العرب والمسلمين حصريا لتشكل حيزا عميق الجذور في التقليد التاريخي الذي أصبح أكاديميا، وحتى في العصر الحديث سيطرت الأندلس على كتابات الإسبان بهوية عربية، لم يستطيعوا تنقيتها
في البداية تيقّن المثقفون الإسبان بأن هوية الجزيرة الأيبيرية الأصلية كانت قبل الفتح الإسلامي الأندلسي هي "هسبانيا" بالهاء، ولا بد من استعادتها، وكانت مختلفة كليا عن إسبانيا التي نشأت بعد تصفية الأندلس، ومع ذلك تبين أنهما قبل الأندلس وبعدها، كيانان تاريخيان مختلفان مرتبطان بعلاقة هسبانيا وإسبانيا، وأية محاولة استمرار لهسبانيا الرومانية لتظل كما كانت قبل الأندلس الإسلامي هي محاولة فاشلة، وهذا ما يكتبونه ويؤكدونه حتى اليوم.
تأكد أسبان اليوم بأن الأندلس لا تستطيع رغم التصفيات أن تكون بمقاييس الثقاقة الإسبانية الكاملة، لأنها أصبحت علامة تجارية وسياحية عالمية متعلقة بمقاييس الهوية العربية.
أما هسبانيا فهو الاسم الذي أطلقه الرومان في القرن الثالث قبل الميلاد على كامل شبه الجزيرة الإيبيرية، التي تضم اليوم البرتغال وجبل طارق والأندلس الإسبانية وأندورا وجزءا صغير جدا من فرنسا، والاسم مشتق من هسبانيا التي كانت مقاطعة من مقاطعات الإمبراطورية الرومانية، فالرومان حين انتقلوا للعيش فيها، قاموا بتعميرها، وعبدوا الطرق وبنوا مدنا للعيش فيها، وأدخلوا اللغة اللاتينية، لكن اللغة الإسبانية تطورت تدريجيا بوصفها لغة تخاطب، والديانة الرسمية فيما بعد للمقاطعة كانت الكاثوليكية، حتى القرن الخامس الميلادي، ليغزو هسبانيا الكثير من الشعوب بدءا من الوندال حتى قبائل الجرمان والقوطيين، ويتخلص كل من يأتي ممن سبقه، وظلوا يحكمون هسبانيا حتى الفتح الإسلامي عام 711م.
ولأننا نعرف أن الأندلس سماها العرب وظل الإسبان يسمونها كذلك، بل وكُتبت في معظم اللغات الأوروبية على هذا النحو. علينا أيضا معرفة أن العرب بعد دخولهم لم يغيروا اسمها، أو اسم المكان الذي عاش فيه الوندال، ونعني الونداليين، وهم قبائل جرمانية استقروا فيها، من "وندلس"، فقالوا أندلس، مستبدلين في لهجتهم فقط الواو ألفا.
بقي العرب فيها حوالي ثمانية قرون، وانتشرت في أنحائها الثقافة العربية والإسلامية، وعلى الرغم من استئصال هاتين الثقافتين من شبه الجزيرة الأيبيرية، وبالتالي تصفية هوية الأندلس العربية والإسلامية... يتساءل الإسبان اليوم:
هل عادت "وندلس" كما كانت هاسبانية؟
والحقيقة أن العالم يراها قضية تاريخية تطرحها الشساعة، فبعد ثمانية قرون عربية، أصبحت الأندلس ظاهرة تاريخية ذات نتائج بعيدة المدى وفسيحة، بغض النظر عن الديانة واللغة.
تعالوا لنرى اليوم كيف أن الأندلسين (الهسبانية والإسبانية) هما تاريخان مختلفان، على الرغم من كل ما جرى، لم تعد هوية "وندلس" هسبانية، وإن تمت محاولات جديدة ومستمرة، فستكون هناك عقبات لا يمكن التغلب عليها. لقد بنيت الهوية على اسم الأندلس، بهوية إسبانيا الجديدة المبنية على هوية عربية، والتي يعبر عنها الإسبان بأسماء عربية، وكما يقول المؤرخ الأسباني "أليخاندرو غارسيا سانجوان" المتخصص في تأريخ الأندلس:
"في اللغة الإسبانية اليوم يقول الإسبان: بلاد الاندلس، وأهل الأندلس، وهما حرفيا يعنيان شعب الأندلس في اللغة العربية، كما الدلالات اللغوية والعبارات والمفردات، من حيث الشكل والأصل، فكلها مستندة إلى المصطلحات العربية، وبعضها إسلامية مثل إن شالله، وحفظك الله... يستخدمها الإسبان في تعابيرهم اليومية، إلى ما يعني بالعلوم الطبية والخوارزميات والجبر والجمارك والمؤسسات والأنشطة التجارية والزراعية والمعمارية وأسماء المواقع الجغرافية، إلى الخصائص الصوتية والتوافقات والصوتيات ونظام الأندلس القديم...".
تأكد أسبان اليوم بأن الأندلس لا تستطيع رغم التصفيات أن تكون بمقاييس الثقاقة الإسبانية الكاملة، لأنها أصبحت علامة تجارية وسياحية عالمية متعلقة بمقاييس الهوية العربية
ويستغرب الإسبان كيف أنه حين وصل العرب إلى الأندلس انقطعت كل التطورات التاريخية السابقة، على الرغم أنهم لم يجبروا المسيحيين (الأندلسيين) على اعتناق الإسلام، فلم يكونوا مجرد بنية فوقية للسلطة، لكن اللغة العربية ذات الطبيعة الرومانسية بمظاهرها الكتابية في التعابير الشفهية أصحبت اللغة الرسمية والثقافية في الأندلس، وكانت لغة الطبقات العليا المثقفة، وأيضا لم يجبروا (الهسبان) على الحديث باللغة العربية في الأندلس، فالعرب كانوا يجيدون اللغتين العربية والهسبانية (القوطية)، التي صمدت حتى القرن الثاني عشر حيث تحدث بها المولدون العرب والبربر من الأمهات الإسبانيات، لكن ثنائية اللغة لم تستمر طويلا حتى انهارت أمام العدد الكبير لمتحدثي اللغة العربية ذات الوقع الشعري والرومانسي من موشحات وزجل وغيرها.
أما بعد سقوط حكم العرب في الأندلس، فقد أجبروا على عدم استخدام لغتهم، نهائيا، لتنتهي الجاليات الناطقة بالعربية في شبه الجزيرة الإيبيرية، لكن هل انتهت فعلا؟ إذن استرداد "وندلس" الهسبانية وإن استئصلت الأندلس العربية، دون جدوى، وظلّ الاسمان مرتبطين بعلاقة اشتقاقية معانيهما التاريخية مختلفة تماما ولا يمكن محوها.