رئيس وزراء من أصل هندي في 10 داونينغ ستريت بلندن، ورئيس وزراء من أصل باكستاني في "بيوت هاوس" بأدنبرة. ولأن رئيس بلدية لندن من أصل باكستاني أيضا، وكذلك زعيم المعارضة في برلمان اسكتلندا، فقد شاع في بعض الأوساط اعتقاد بأن الهند التي حكمتها بريطانيا نحو قرن، وباكستان التي انفصلت عن الهند عام 1947، هما اللتان تحكمانها الآن.
ويمكن فهم مثل هذا الاعتقاد في ضوء ثقافة مجتمعية ناتجة عن تراكم الفشل والإحباط على مدى عقود. فأينما توجد هذه الثقافة يُبحث عن أي نجاح حتى إذا كان متخيلاً أو متوهما. ولهذا يُتصور أن صعود هندي وباكستاني إلى قمة السلطة في لندن وأدنبرة يُعيد الاعتبار لمن أُخضعوا للاستعمار البريطاني الذي يُحمَّل المسؤولية عن فصل باكستان عن الهند. ولا غرابة في ذلك، فالخيال يلد خيالا. ومن يعيش فيه إنما يهرب من واقع لا يرضيه.
مفارقات التاريخ والواقع
لا يهم أصحاب هذا الخيال ما يقوله ويفعله الشابان المُعوَّل عليهما لرد الاعتبار الى الهنود والباكستانيين. ويغيب عنهم أن المهاجرين إلى دول أوروبية نوعان: أحدهما يضم من يغلب قديمُهم الجديدَ الذي اختاروا الذهاب إليه، ويشمل الثاني من يتركون الماضي والتاريخ وراءهم، ولا يجعلون هوياتهم العرقية والدينية حجر عثرة أمام اندماجهم في المجتمعات التي يهاجرون إليها، بل يدمجونها في هوية مركبة يفوق الجديدُ فيها القديمَ. ورئيسا وزراء بريطانيا واسكتلندا من النوع الثاني.
يعتبر ريشي سوناك نفسه إنجليزيا قلبا وقالبا. وحمزة يوسف لا يرى نفسه إلا اسكتلنديا. قال له والده ما معناه إنه ليس المهم من أين أتيت بل إلى أين ذهبت
يعتبر ريشي سوناك نفسه إنجليزيا قلبا وقالبا. وحمزة يوسف لا يرى نفسه إلا اسكتلنديا. قال له والده ما معناه إن ليس المهم من أين أتيت بل إلى أين ذهبت. وقد فهم النصيحة التي روى ملابساتها، وعمل بها فكف عن النظر خلفه.
ولم يكن سوناك في حاجة إلى نصح، فقد عرف طريقه منذ نعومة أظفاره، ولم يكن لديه وقت للنظر وراءه، إذ انكب على دراسته ثم عمله في قطاع المصارف ومؤسسات التمويل. وفور تأمين وضعه المهني، شرع في تكوين رصيد سياسي انطلاقا من عضوية مجلس العموم عام 2015 عن حزب المحافظين، ووصولا إلى انتخابه زعيما للحزب ورئيسا لحكومته في أكتوبر/تشرين الأول 2022.
هما، إذن، ليسا معنيين بالماضي, إذ لم يُحقَّقا ما حقَّقاه إلا بفضل النظر إلى المستقبل طوال الوقت، وقد أدركا أنهما في بلد يعطي الفرص لأصحاب الكفاءة والقدرة بغض النظر عن أصولهم. ولا يفكر أي منهما، بالتالي، فيما إذا كانت بريطانيا التي احتلت الهند هي التي قسّمتها، أم إن الانفصال ارتبط بظروف موضوعية وإرادة من سعوا إلى تأسيس "جمهورية باكستان الإسلامية".
يوسف مُهتم باستقلال اسكتلندا عن بريطانيا في قادم الأيام، وليس بانفصال باكستان في سالفها. فهو لم يعد باكستانيًا، مثلما لم يبق سوناك هنديا، إلا على مستوى التكوين الثقافي والديني الذي صار أحد مكونات هوية كل منهما. وفي الهويات الحديثة والدول الوطنية يأتي الوطن في المرتبة الأولى.
ومن الطبيعي أن يكون لدى كل منهما حنين بشكل ما إلى بلده السابق. ولكنه يبقى في الشعور. أما في الواقع فقد صار هذا البلد، سواء الهند أو باكستان، أجنبيا بالنسبة إلى كل منهما، ويتعاملان معه على هذا الأساس، لأنهما مسؤولان عن تحقيق مصالح دولتيهما في مواجهة الدول الأخرى، بما فيها الهند وباكستان بطبيعة الحال.
مهمتان صعبتان
يحمل كل من سوناك ويوسف على عاتقيهما مسؤوليات ثقيلة تضع كلاً منهما في اختبار صعب منبت الصلة بأصله. يُبحر سوناك مع حكومته وسط أمواج التضخم المتلاحقة، ويسعى إلى إنقاذ السفينة من غرقٍ محتمل في بحر الركود الاقتصادي. هذا هو كل همه بوصفه المسؤول الأول عن إنقاذ الاقتصاد البريطاني من ركودٍ قد تُفضي إليه إجراءات التشديد النقدي الضرورية لكبح التضخم، ويواجه في الوقت نفسه موجة احتجاجات غير مسبوقة منذ عقود للمطالبة برفع الأجور إلى المستوى الذي بلغه التضخم.
أدرك سوناك ويوسف أنهما في بلدٍ يعطي الفرص لأصحاب الكفاءة والقدرة بغض النظر عن أصولهم. ولا يفكر أي منهما، بالتالي، فيما إذا كانت بريطانيا التي احتلت الهند هي التي قسّمتها، أم أن الانفصال ارتبط بظروف موضوعية وإرادة من سعوا إلى تأسيس "جمهورية باكستان الإسلامية"
ومهمة حمزة يوسف ليست أسهل، بل ربما تكون أصعب. الاستقلال، الذي يتصدر مبادئ الحزب القومي الاسكتلندي، أصبح أبعد منالاً، أو قُل إن الطريق إليه صار مغلقا إلى حين، بموجب قرار من المحكمة العليا البريطانية يمنع إجراء استفتاء ثان عليه دون موافقة الحكومة البريطانية.
وتنطوي قضية استقلال اسكتلندا على مواجهة مباشرة بين يوسف وسوناك، لا مكان فيها لأصل هذا أو ذاك. لا يريد سوناك، مثل غيره من قادة الأحزاب الإنكليزية، تفكيك المملكة التي ظلت متحدة لأكثر من ثلاثة قرون، أي منذ اتحاد إنكلترا واسكتلندا في 1707. ولا يستطيع يوسف إلا أن يبحث عن طريقٍ إلى استقلال كان، ولا زال، الهدف الرئيس لحزبه في ظروف أصعب من أي وقت مضى.
وإذا افترضنا أنه يستطيع إرجاء هذا الهدف، فليس في إمكانه تأجيل مهمة مُلحة ربما يتوقف عليها مستقبله السياسي, وهي توحيد حزبه المنقسم إلى ثلاثة اتجاهات بشأن كيفية التعامل مع عوائق الاستقلال. فثمة اتجاه متشدد يدعو إلى تحدي حكومة لندن وتدويل القضية، وثان معتدل يفضل الانتظار والعمل لتوسيع قاعدة أنصار الاستقلال في اسكتلندا، وثالث يرى أن إعطاء أولوية لهذه القضية لم يعد واقعيا، في ضوء الحاجة إلى إصلاحات اقتصادية واجتماعية عاجلة بناء على رؤية تقدمية لخلق فجوة حقيقية مع الإنكليز الذين تسود القيم المحافظة في أوساط قطاع واسع منهم.
كما أن فوزه بزعامة الحزب ورئاسة الحكومة بهامش محدود جدًا (52 في المئة) يُكرّس انقسامًا بين تيار يتبنى أكثر المواقف انفتاحا تجاه قضايا اجتماعية مثل الجندر وزواج المثليين وتيسير تغيير النوع الاجتماعي في الأوراق الثبوتية، وآخر يتخذ موقفًا محافظا إزاء هذه القضايا. وقد فشلت محاولته الأولى للحد من هذا الانقسام عندما رفضت منافسته الأساسية في انتخابات الحزب الحاكم كيت فوربس الانضمام إلى حكومته الجديدة، وصارت بالتالي مع أنصارها على خط المعارضة الصريحة التي ستُزيد مهمته صعوبة.
ولا صلة لأصل سوناك الهندي، وأصل يوسف الباكستاني بهذه الصعوبات التي كانت في انتظار من يفوز برئاسة حزب المحافظين، والحزب القومي الاسكتلندي، أيا كان. فكلما ارتفع مستوى التطور في المجتمع، أي مجتمع، انخفض الاهتمام بالأصل والدين، وصار الحكمُ على أي مسؤول سياسي معتمدا على أدائه وما ينجح في إنجازه أو يفشل.