كتب صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" هذا المقال، كجزء من مساهمته الأسبوعية في الصفحة الأخيرة من مجلة "المجلة" والتي واصل كتابتها دون انقطاع لسنوات طويلة، وأهمية هذا المقال ليس في كونه نبوءة لما يشهده السودان هذه الأيام من اقتتال وصراع عنوانهما السيطرة، بل في كونه شاهدا على تلك الأزمات العميقة التي رافقت السودان طوال عقود، بينما يواصل أبناء السودان الحلم بدولة مدنية ديمقراطية تخرجهم من ظلمة الماضي وتقودهم نحو المستقبل المزدهر.
في ما يلي نصّ المقال:
هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟
هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنازحين يريدون الهروب إلى أي مكان؟ فذلك البلد الواسع لم يعد يتسع لهم. كأني بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين. يُعلن عن قيام الطائرات ولا تقوم. لا أحد يكلمهم. لا أحد يهمه أمرهم.
هل ما زالوا يتحدثون عن الرخاء والناس جوعى؟ وعن الأمن والناس في ذعر؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟
جامعة الخرطوم مغلقة، وكل الجامعات والمدارس في كافة أنحاء السودان. الخرطوم الجميلة مثل طفلة ينيمونها عُنوة ويغلقون عليها الباب، تنام منذ العاشرة، تنام باكية في ثيابها البالية، لا حركة في الطرقات. لا أضواء من نوافذ البيوت. لا فرح في القلوب. لا ضحك في الحناجر. لا ماء، لا خبز، لا سُكر، لا بنزين، لا دواء، الأمن مستتب كما يهدأ الموتى.
نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم، ويعزف لحنه القديم. (السادة) الجدد لا يسمعون ولا يفهمون، يظنون أنهم وجدوا مفاتيح المستقبل. يعرفون الحلول، موقنون من كل شيء. يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة. يقولون كلاما ميتا في بلد حي في حقيقته ولكنهم يريدون قتله حتى يستتب لهم الأمن.