ثمة خطأ يتكرر في الدرس الفلسفي، وجدته عند من يرى أن السفسطائيين هم جماعة من خصوم الفلاسفة الذين ينفون حقائق الأشياء، وأن أفلاطون قد ردّ عليهم وأفحمهم وقطع دابرهم وانتهوا. هذا على الرغم من أنه يسهل رصد ملامح وسمات شكوكية واضحة في كتابات الفيلسوف المتفق على عظمته، ديفيد هيوم من إسكتلندا القرن الثامن عشر، وفي أفكاره التي تشبه ما كان عليه هؤلاء السفسطائيون، لاسيما وأن هيوم يذكر في كتبه قوما من الفلاسفة هم "البيرونيون" الذين أثّروا تأثيرا عميقا عليه وعلى القرنين السابقين لزمانه.
فمن المرجّح تاريخيا هو أن السفسطائيين لم يغيبوا يوما واحدا عن الدنيا، بل إنهم قد استولوا على أكاديمية أفلاطون وترأسوها بعد وفاته بزمن ليس بالطويل، وأن حضورهم وإن كان قد ضعف بعد القرن الرابع عندما أصبحت المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية وأسكتت الأصوات الحرة، إلا أن الشك نفسه قد بقي كوسيلة للقدح في عقائد الآخرين، وتسلل إلى مناظرات رجال الدين حول العقيدة الصحيحة. ليس في المسيحية فقط، بل في كل الأديان. ثم لم يلبث أن عاد السفسطائيون باسم جديد هو "الشكوكيون" في عصر النهضة عندما اكتشفت أوروبا من جديد في سنة 1562 نصوص سيكستوس أمبريكوس التي حفظت تراث شكوكية المدرسة البيرونية، فعادت من جديد مع النهضويين ثم في العصر الحديث.
لم يغب الشكوكيون، بل إنني لأجزم أن كل الفلاسفة العظماء ممن كانوا يرومون إثبات معرفة ما، ومن كانوا أقل منهم عظمة، عاشوا جميعا في صراع مع الشكوكيين، وكانوا طوال القرون في حوار طويل معهم، إلى يومنا هذا. قد تجد بعض المثقفين الكبار، كالدكتور عليّ الوردي، من يتحسّر على انقراض السفسطائيين أو الشكوكيين واختفائهم في زوايا التاريخ، وكيف أنه يلقي باللوم على أفلاطون وأرسطو لأنهما سبب الاختفاء. لكنّ ثمة شقا صحيحا وآخر غير صحيح في هذه المقولة. نعم، لقد حاول الفيلسوفان القضاء على السفسطة، وتثبيت صورة واحدة للمعرفة الصحيحة في نظرهما، وبذلا كل جهد لذلك، وتابعهما رجال الدين في القرون الوسطى، بل وتابعهما علماء الطبيعة الذين يريدون أن يمضوا في بحوثهم من دون دودة الشك، لكن كل تلك الجهود لم تفلح. لماذا لم تفلح؟
لولا الشك لما نشأ العلم ولما تطورت الأفكار الجوهرية التي كشفت عن العالم لثامه، ولما وقعت التطورات الاجتماعية التي شهدها التاريخ وشهدناها معه
ببساطة، لأن الشك ضرورة لحركة الفكر وشرط للتطور، ولولا الشكوكيين لما تطورت الفلسفة ولا العلم. الشك قوة حيوية لعبت دورا كبيرا في هذا المجال.ولذا لا بد أن يكون متواجدا على الدوام للتصحيح والكشف عن مواطن الزيف، وإن افترضنا أنه سيغيب ولو لفترة، فيجب علينا أن نوجده بعد حين. لولا الشك لما نشأ العلم ولما تطورت الأفكار الجوهرية التي كشفت عن العالم لثامه، ولما وقعت التطورات الاجتماعية التي شهدها التاريخ وشهدناها معه، وإنني لأجزم بأنه كان موجودا دائما، لكننا مقيّدون بالتاريخ المدون وسنلتزم به، وسنقول إن كل هذا حدث أو بدأ في الحدوث عندما توصل فلاسفة أيونية في مرحلة ما قبل سقراط إلى تفسيراتهم للوجود.
هناك عدة قضايا ينبغي أن نفصل بينها منذ الآن حتى يكون القادم عبارة عن محاولة للبرهنة على صحة هذه القضايا. الأولى هي أن السفسطائيين لم ينقرضوا والشك لم يغب يوما واحدا. الثانية، هي أن توقيت بداية الشك غير صحيح، فهو لم يبدأ مع بروتاغوراس والسفسطائيين الإغريق. الثالثة، هي أننا نريد أن ننزع هذا المسمّى (السفسطائيين) عن الأشخاص التاريخيين، وأن نعممه على كل الفلاسفة، إذ لا تخلو فلسفة فيلسوف من مقدار من الشك، مع أنه قد يكون محصورا في جانب معين من جوانب المعرفة، ومع أنه قد ينفي عن نفسه هذه الصفة، كمن يزعم أنه فيلسوف إثباتي وهو لا يثق في معطيات الحواس ويتشكك فيها. الرابعة، هي أننا نرغب في توسيع دائرة الشكوكيين، لا بأن نصف الدوغمائي بأنه شكوكي، وإنما بأن ننبّه على العنصر الشكوكي في فلسفة كل فيلسوف. من جهة أخرى، مبدأ التوسيع هذا يوافقنا عليه أفلاطون نفسه، فقد كان يرى أن السفسطائي الأكبر هم عامة الناس، مع أن هناك فرقا واضحا بين شك الفيلسوف وشك العامي، كما قرر فتغنشتاين.
الشكوكية لم تختف البتة عن بصر الفكر الإنساني، بل هي ممتدة في كل التاريخ: في القرون الإغريقية الذهبية الخمسة قبل الميلاد، وبعد الميلاد في العصر الوسيط وفي عصر النهضة، وفي كل القرون الحديثة، ولا زالت موجودة في الفلسفة المعاصرة. وإنه لمن الخطل أن نعرّف السفسطائيين بأنهم فقط تلك الجماعة من المفكرين والأدباء الإغريق الذين عاشوا وماتوا في القرون الخمسة قبل الميلاد، فدائرة السفسطائيين أوسع وأشمل.
الشكوكية لم تختف البتة عن بصر الفكر الإنساني، بل هي ممتدة في كل التاريخ: في القرون الإغريقية الذهبية الخمسة قبل الميلاد، وبعد الميلاد في العصر الوسيط وفي عصر النهضة، وفي كل القرون الحديثة
شك الماديون في وجود عالم وراء الحس وادعوا أن لا عالم إلا هذا. وفي عالم آخر، عندما تنظر إلى ذلك الفيلسوف ذي النزعة المثالية، ذاك الذي يُنكر الواقع الخارجي ولا يعترف بوجود الأشياء ويردّ وجودها إلى الذهن الذي يُدركها، على قاعدة: أن توجد يعني أن تُدرَك، فستجد عند التأمل أنه في حقيقة أمره يمارس نوعا من السفسطة والشك وإنكار الحقائق. لذلك لا ينبغي أن نقف عند الشكوكيين الخُلّص، بل سنزيد على ذلك بتسليط مزيد من النور على النزعات الشكوكية عند من لا يوصفون بأنهم شكوكيون أو سفسطائيون، كنوع من المساهمة في خلق فهم وتصور شامل لمعنى السفسطة الذي تَغير كثيرا وتنوعت معانيه عبر العصور ككل شيء يتطور. ولا يجب أن يتوقف طموحنا عند هذا الحد، بل تجدر الإشارة إلى الترابط في تاريخ الشكوكية، وأثر هذا الترابط على الفلسفة والعلم، وكيف ساهم فيما وصلت إليه الإنسانية من تطور.
خلاصة القول، إن الشكوكية اليوم ليست جعجعة شخص يجب إخراسه، بل هي وجهة نظر فلسفية، وليست مجرد سلسلة من الشكوك المتعلقة بالمعتقدات الدينية التقليدية، بل تشمل كل مجالات الحياة، وأصول هذا الفكر قديمة وراسخة في الفكر اليوناني القديم، بل في كل فكر.