عالجت السينما خلال السنوات التي تلت الغزو الأميركي للعراق، الحرب وتبعاتها من جوانب مختلفة. عراقيا، كانت هناك اجتهادات عدة في هذا الموضوع، وإن دار معظمها على مرحلة ما قبل الحرب، أيام نظام صدّام حسين. أفلام مثل "في أحضان أمي" (2022) و"رمال بابل" (2013) (كلاهما لمحمد الدرّاجي) و"صمت الراعي" لرعد مشتت (2014) و"ذكريات منقوشة على حجر" لشوكت كوركي (2014) وسواها، كانت مشغولة بنقد النظام السابق بعدما ولّى وصار من الآمن التعرض له. قليلةٌ الأفلام التي انتهجت طريق معارضة تلك الحرب خوفا من الرقابة، أو عارضت العقوبات الغربية قبيل الغزو، بقدر ما انتقدت النظام السابق في الوقت نفسه، كما فعل فيلم "مسيو كافيه" الذي كان على مخرجه جعفر عبد الحميد، تحقيقه بأموال غربية في المهجر.
على صعيد ما، يبدو الأمر طبيعيا: الأفلام المصنوعة محليا تستطيع أن تنتقد نظاما بائدا ولا تستطيع نقد نظام حاضر، بصرف النظر عن حقيقة أن الوضع لم يتحسّن كثيرا في زمن بعض الحكومات المتعاقبة. أما الأفلام التي يمكن إنتاجها خارج البلاد فيُتاح لها أن تقول ما تريد، علما أن أيا منها لم ينتهز تلك الحرية ليشيد بنظام حزب البعث أو صدام حسين.
أفلام قتيبة الجنابي الثلاثة، "الرحيل من بغداد" (2014) و"قصص العابرين" (2017) و"رجل خشب" (2021) تتناول هروب أبطاله من النظام السابق بحثا عن الحرية والسلام. الخوف يركب شخصياته كلها. الفيلم الأول هو عن هروب بطله من عراق قبل الغزو بجواز سفر زائف، والثاني عن الهروب من أتباع النظام في أوروبا، والثالث عما آل إليه هذا الهروب من فقدان هوية.
في العقد الثاني من القرن الحالي، ظهرت بضعة أفلام عراقية عالجت الهجرة والتشتت بفعل ما مرّ به العراق قبل النظام وبعده.نجد "مسيو كافيه" لجعفر عبد الحميد عن عراقيين هاجروا إلى لندن، في طرح جديد ومستوى أعلى من أفلام سابقة. فهو لا يحمل لافتات التنديد بالنظام والدعوة إلى اطاحته على الرغم من معارضته له، بل يلتفت إلى الحالات والظروف الإنسانية التي زادتها قرارات الغرب تعسّفا.
ما يؤسف له، أن السيناريو مكتوب بلا دراية كافية ولا يحتوي على ما يكفي من مواقف تنتقل بالموضوع قُـدُما على نحو متواصل ومتصاعد. المحاولة جادّة وكانت تستحق تنفيذا أفضل، لكن الفيلم لا مثيل له في تناوله مسؤولية الغرب حيال تلك الأحداث.
في موضوع الهجرة نفسه، "بغداد في خيالي" لسمير جمال الدين يتحدّث عن "كافيه" أخرى تجمع عراقيين لاجئين يطارد بعضهم الخوف من الماضي.وكان جمال الدين حقق فيلما أفضل عنوانه "أوديسا عراقية" عن هذا الشتات العراقي الموزّع ما بين كندا وسويسرا وبريطانيا ودول أخرى.
ينطلق سمير (كما يكتفي بوضع اسمه على أفلامه) من التعريف بأقاربه المنتشرين حول العالم: ستة أعمام، عشرون أولاد عم وخمسة أشقاء، ثم يتابع ما حدث لخمسة من أقاربه الذين تركوا العراق على مراحل، وكلٌّ إلى بلد مختلف.
المخرج العراقي الذي غرّد خارج السرب وأنجز أفلاما متعددة التوجّهات (بعضها لا علاقة له بالعراق أساسا) هو المخرج هاينر سليم الذي قدّم، في جملة ما قدّم، "ڤودكا ليمون" (2003)، كوميديا تقع أحداثها في أرمينيا، و"تحت وفوق باريس" (2007) عن المهاجرين العراقيين في باريس، و"لايدي وينسلي" (2019) كوميديا أخرى تقع أحداثها في ربوع تركية. آخر أفلامه "غودنايت سولدي"دراما عاطفية أنجزها في العام الماضي بتمويل فرنسي حول تقاليد وموروثات تكاد تحول بين حبيبين.
العين العراقية المهاجرة بالطبع ليست الوحيدة التي نظرت إلى العراق بعد الحرب أو إلى من لجأ إلى الغرب بعيدا عن الوطن. بل هناك أفلام عديدة، أغلبها أميركي، تطرّقت إلى الحرب العراقية من وجهات نظر متعددة. الطرح هنا توزّع بين ثلاثة جوانب، مع وضد وعلى الحياد. هذا في مقابل التوجه الدائم إلى الأفلام العراقية التي نُفّذت داخل العراق لنقد النظام السابق من دون معاينة ما أدّى الغزو إليه.
تحتمل هذه المسألة مراجعات سياسية معقّدة تعود إلى بحث كيف تورط نظام صدّام حسين في حرب العراق وجملة الادعاءات الأميركية وبعض الأوروبية حول امتلاك العراق ذخيرة نووية "تهدد الأمن في المنطقة"، وفي بعض التصريحات "ما يصل منها إلى الولايات المتحدة ذاتها".
ما بعد العودة
من وجهة أميركية، تميّزت الحرب العراقية عن حروب أميركا السابقة، ومنها حرب فيتنام، في أنها وقعت في زمن تستطيع فيه كاميرات التصوير أن تكون في قلب المعارك ناقلةً على الهواء مباشرة ما يدور. هذا ما حدّ من نجاح الأفلام التي تناولت الحرب العراقية سواء أيّدتها أم عارضتها. فالقاعدة العريضة من الناس كانت، في حلول النصف الثاني من العقد الأول من هذا القرن، اكتفت بما شاهدته.
لم تُسارع السينما الأميركية إلى تقديم أفلام حول فيتنام، بل انتظرت خمس سنوات قبل أن تبدأ غزوها لتلك الحرب. هذا باستثناء فيلم جون واين، "قبعات خضر" (1968)، الذي عكس موقف الممثل- المخرج الراحل اليميني الملتزم تأييد الحرب، كونها تعبيرا عن واجب مواجهة الخطر الشيوعي خارج أميركا (بعدما كانت المكارثية واجهته داخل أميركا في الخمسينات).
الحال نفسها بالنسبة إلى الحرب العراقية، إذ مرّت بضع سنوات قبل أن تبدأ السينما الأميركية بالتطرّق إليها. هذا على الرغم من فيلم واحد، دار في حقبة الغزو العراقي للكويت الذي كان بمثابة تمهيد للغزو الأميركي المضاد.
يُسجل للفيلم الأول حول العراق، أنه احتوى على موقف ضد سوء معاملة السجناء العراقيين. الفيلم هو"جنود أميركيون" (2005)، فيلم أكشن في الأساس أخرجه سيدني ج. فيوري الذي كانت له سوابق في أفلام الحرب.
بعد عامين نجد أن المخرج برايان دي بالما لم يكتف في فيلمه "منقّح" (2007) بعرض سوء المعاملة عموما (داخل المعتقلات وخارجها) بل ذهب إلى بعد شامل ومناوئ للوجود الأميركي برمّته. إذ تناول الفيلم فضيحة عسكرية أبطالها أميركيون، وقعت، فعليا، عندما تعرّضت عائلة عراقية للقتل بعد اغتصاب ابنة العائلة الشابّة (أربعة عشر عاما). كان دي بالما يستطيع إنجاز فيلم ذي سرد تقليدي عن الحادثة، كما فعل حينما تحدّث عن حرب فيتنام في فيلمه"ضحايا الحرب" (1986)، لكنه اختار "فورمات" شبه تسجيلية بكاميرا فيديو تسجل كأنها منتدبة من محطة تلفزيونية مستقلة. يلاحق الفيلم في أحد المعسكرات الأميركية ثلة من الجنود بينهم اثنان ارتكبا جريمتي الاغتصاب والقتل. لا يكتفي المخرج بأسلوب التسجيل المذكور بل يُقدم كذلك على تصوير الواقع مستخدما أسلوب "فيلم داخل الفيلم" كوسيلة للنظر الى ذلك الواقع.
بقدر ما يغوض "مُنقح" في الحرب، يبتعد عنها فيلمان في الفترة نفسها. الأول هو "وطن الشجعان" لإروين وينكلر. بعد مشاهد قليلة حول تعرض جنود أميركيين لنيران المقاومين العراقيين، يعود ثلاثة من هؤلاء إلى أميركا حيث يخوضون آثار الحرب التي تمنعهم من الاندماج جيدا في الواقع الإجتماعي السابق لانضمامهم إلى الحرب.
الفيلم الثاني لجيم ستراوس وعنوانه "النعمة ولّت"، وفيه يؤدي جون كوزاك دور عائد من الحرب إلى مجتمع يجده غير آبه به وبتضحياته.
أيضا في تبعات ما بعد العودة من جبهات القتال، "في وادي إيلاه” (2007) لبول هادجز، وهو عن اختفاء جندي أميركي (جوناثَن تاكر) بعد عودته من العراق. والده (تومي لي جونز) يبحث عنه، تساعده في ذلك تحريّة (تشارليز ثيرون)، ليكتشفا أن ابنه مات قتلا على أيدي رفاقه. في خلاصته، يتعرّض الفيلم الى عنف متأصّل في الجنود، متبنيا موقفا معاديا للعنف الناتج من الحرب، لكنه ليس بالضرورة ضد الحرب نفسها.